فضائيات

BBC والفيلم الوثائقي عن غزة: بين الاعتذار المذلّ والانحياز الصارخ

في مشهدٍ يعكس هشاشة الإعلام الغربي أمام الضغوط السياسية، وجدت “بي بي سي” نفسها مجبرةً على الاعتذار عن فيلمٍ وثائقي كشف معاناة أطفال غزة تحت القصف الإسرائيلي. لم يكن الاعتذار عن أخطاء مهنية، بل عن “جرأة” نقل صوت الضحايا الذين لا ينتمون – بحسب المعايير المتحركة – إلى فئة الضحايا “المُعتمَدين” من قبل الرواية الإسرائيلية.

الفيلم، الذي حمل عنوان “غزة: كيف تنجو في منطقة حرب؟”، لم يقدّم جديدًا سوى تسليطه الضوء على قصص ثلاثة أطفال عاشوا الرعب اليومي للحرب. لكنّ المشكلة – في نظر المنتقدين – كانت في هوية أحد هؤلاء الأطفال: عبد الله اليازوري، نجل موظفٍ سابق في وزارة زراعة غزة التابعة لحكومة حماس. هذا الارتباط العائلي البعيد كفيلٌ – في المنطق الإسرائيلي – لتحويل الطفل من ضحية إلى “أداة دعائية”، ومن براءة إلى “تورط إرهابي”!

اللافت أن الفيلم تلقى إشاداتٍ أولية من صحف بريطانية محافظة مثل “التايمز” و”الديلي تليغراف”، التي رأت فيه توثيقًا نادرًا لوجهة نظر الأطفال. حتى “الغارديان” أشادت بقدرته على كشف الواقع المأساوي عبر عيون الصغار، الذين لا يحملون سوى ذنب العيش في مكانٍ قررت إسرائيل تدميره. لكنّ كل هذا لم يشفع للفيلم حين هبّت عاصفة الاتهامات من اللوبي المؤيد لإسرائيل، متهمةً البي بي سي بـ”التطبيع مع الإرهاب” لمجرد إعطاء مساحة لأطفال غزة!

المفارقة أن الاعتذار الرسمي للبي بي سي تحدث عن “ثغرات خطيرة” و”تقصير في الإنتاج”، دون أن يوضح أيّ خطأٍ مهني ملموس. فـ”الثغرة” الوحيدة كانت عدم التشكيك في ضحايا الحرب لأن أحدهم قد يكون ابن مسؤول! كأنّ الأطفال في غزة يجب أن يخضعوا لفحصٍ أمني قبل الاعتراف بمعاناتهم، أو كأنّ البي بي سي مطالَبةٌ بتقديم شهادات “نقاء سياسي” لكل طفلٍ يُقتَل أو يُشرَّد!

القضية هنا تتجاوز فيلمًا واحدًا. فما كشفه هذا السجال هو الآلية الممنهجة التي تفرضها إسرائيل على الإعلام العالمي:

  • أي صوت فلسطيني يجب أن يُختبر بولائه السياسي قبل الاعتراف بإنسانيته.
  • أي رواية تخرج عن السردية الإسرائيلية تُعتبر “انحيازًا”، حتى لو كانت مجرد صورٍ لأطفالٍ يبكون تحت الأنقاض.
  • المؤسسات الإعلامية الكبرى – مثل البي بي سي – تُطبّق معايير “الحياد” بشكلٍ انتقائي: فالتقصير في التحقق من هويات الضحايا الفلسطينيين جريمة، بينما الترويج للروايات الإسرائيلية دون تدقيقٍ (كما في ادعاءات الاغتصاب في 7 أكتوبر) يُعدّ “صحافة استقصائية”!

الأمر لا يتعلق بـ”أخطاء مهنية”، بل بمعيار مزدوج يُجيز للصحفيين الغربيين تصديق الرواية الإسرائيلية دون أدلة، بينما يشككون في كل رواية فلسطينية حتى مع وجود الأدلة. والأكثر إهانةً أن البي بي سي – التي تُتهم منذ سنوات بالانحياز لإسرائيل من قبل موظفيها نفسهم – تسارع إلى الاعتذار حين يُنتقد فيلمٌ يظهر معاناة الفلسطينيين، بينما تتجاهل عشرات الشكاوى الداخلية عن تحيز محرريها لصالح إسرائيل.

الاعتذار عن فيلم “غزة” يُرسل رسالةً واضحةً للصحفيين:

  • الرواية الفلسطينية مشبوهةٌ بطبيعتها، وإبرازها يحتاج إلى “تصريح أمني” من إسرائيل.
  • الضحايا الفلسطينيون ليسوا ضحايا “بريئين” بما يكفي، ما لم توافق إسرائيل على ذلك.
  • الخضوع للضغوط السياسية أولى من نقل الحقيقة، خاصةً إذا كانت الحقيقة تُحرج إسرائيل.

في النهاية، الفيلم الوثائقي لم يسقط إلا لأنه كسر القاعدة غير المكتوبة: أن تكون ضحيةً في غزة، عليك أولًا أن تثبت أنك لست فلسطينيًا بالكامل!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى