صحافة

كيف كانت تغطية القنوات الإخبارية العربية لحرب غزة ؟

لا يزال المشهد الإعلامي العربي يرزح تحت وطأة التغطية الأحادية لأحداث غزة، حيث تحولت معظم الفضائيات ووكالات الأنباء إلى بوق متكرر للأرقام القاتمة، والصور المروعة، واللغة العاطفية المشحونة. فبعد أكثر من عام على الحرب، لم يعد الجمهور يتلقى معلومات جديدة بقدر ما يتعرض لتدفق مستمر من الأخبار المكررة التي تخلط بين التحليل الصحفي والخطاب السياسي. وفي خضم هذا السيل الإخباري، بدأ المشاهد العربي يشعر بفقدان الثقة في مصداقية الوسائل الإعلامية، لا بسبب تعاطفها مع القضية الفلسطينية، بل لأنها فشلت في تقديم رؤية متوازنة تخرج من دائرة التضخيم والتكرار إلى فضاء التحليل العميق والمضمون الثري.

أزمة الإعلام العربي: بين التضخيم والتسطيح

لقد تحولت التغطية الإعلامية لغزة إلى ما يشبه “الإنتاج الصناعي” للأخبار، حيث تعيد المؤسسات الإعلامية تدوير نفس المحتوى يومياً مع إضافة بعض التعديلات الطفيفة. فنجد، على سبيل المثال، أن بعض القنوات تكرر مصطلحات مثل “المقاومة الباسلة” أو “الجيش الذي لا يقهر” دون تقديم تحليل استراتيجي أو سياسي عميق. وفي المقابل، تقدم قنوات أخرى سردية تقوم على الأرقام الجافة دون ربطها بالسياق التاريخي أو القانوني للنزاع.

وهذا النهج لا يخدم القضية الفلسطينية بقدر ما يزيد من استنزاف المشاعر العامة، ويُبعد الجمهور عن فهم الجذور الحقيقية للأزمة. فبدلاً من أن تكون وسائل الإعلام منصة لتسليط الضوء على الأسباب العميقة للصراع، مثل الاحتلال والمفاوضات المتعثرة ودور المجتمع الدولي، أصبحت مجرد ناقلة لأخبار المعارك اليومية، مما يجعل الصورة مشوشة ومبتورة.

التغطية بين العاطفة والانحياز: كيف تختلف القنوات في طرحها؟

إذا أجرينا مقارنة بين التغطيات الإعلامية المختلفة، سنلاحظ أن كل قناة تقدم الأحداث وفقاً لسياسة التحرير الخاصة بها، والتي تعكس في الغالب موقف الدولة التي تمولها:

1. القنوات ذات النهج العاطفي والانحياز الواضح

  • الجزيرة: تتبنى خطاباً درامياً يعتمد على تكثيف المشاهد المؤلمة، مع استخدام مصطلحات مثل “شهداء” و”إبادة جماعية”، وتضخيم أي انتصار عسكري لفصائل المقاومة.
  • الأناضول: تقدم سرداً قائماً على إبراز “البطولة الفلسطينية” في مواجهة “الآلة العسكرية الإسرائيلية”، مع التركيز على الجانب الإنساني أكثر من التحليل السياسي.

2. القنوات ذات النهج التحليلي الظاهري

  • العربية: تميل إلى تقديم الأحداث بصورة أكثر هدوءاً، مع الاعتماد على التصريحات الرسمية والإحصاءات، لكنها تتهم أحياناً بالانحياز للرواية السعودية.
  • الحرة: توازن بين الرواية الفلسطينية والإسرائيلية، لكنها تمنح مساحة أكبر لمعاناة الأسرى الإسرائيليين، مما يعكس الموقف الأمريكي.

3. القنوات التي تجمع بين العاطفة والتحليل

  • القاهرة الإخبارية: تقدم مزيجاً من التوثيق الإخباري والخطاب العاطفي، مع تسليط الضوء على الدور المصري في الوساطة وإغاثة الغزيين.
  • فرانس 24: تعتمد على المصادر الرسمية من الجانبين، لكنها تقدم تغطية أقل تعاطفاً مع المدنيين الفلسطينيين مقارنة بالقنوات العربية.

كيف يمكن للإعلام العربي تجاوز هذه الأزمة؟

إن الخروج من هذه الدوامة يتطلب إعادة هيكلة جذرية لطريقة التغطية، وذلك عبر:

1. الانتقال من الخبر السريع إلى التحليل العميق

بدلاً من التركيز على “عدد الشهداء اليوم”، يمكن تقديم تقارير استقصائية عن تأثير الحرب على البنية التحتية، أو تحليل المفاوضات السياسية، أو تقييم مواقف الدول الكبرى. فالمشاهد يحتاج إلى فهم الأحداث، وليس فقط مشاهدتها.

2. تنويع المصادر والابتعاد عن الانحياز المفرط

لا بد من إعطاء مساحة لأصوات متنوعة، سواءً كانت فلسطينية أو إسرائيلية أو دولية محايدة، مع التحقق من المعلومات بدقة قبل بثها. فالإعلام المهني يجب أن يكون منصة للحوار، وليس أداة للدعاية.

3. إفساح المجال لقضايا أخرى

لا يعني التخفيف من تركيز التغطية على غزة التخلي عن القضية، بل موازنتها مع قضايا إقليمية أخرى تحتاج إلى اهتمام، مثل الأوضاع في اليمن وسوريا وليبيا، أو حتى الملفات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤثر على المواطن العربي.

4. الابتعاد عن الخطاب العاطفي المبالغ فيه

فالمشاهد لم يعد يقتنع بالشعارات الرنانة، بل يريد حقائق واضحة وشفافة. فبدلاً من وصف كل عملية عسكرية بأنها “انتصار ساحق”، يمكن مناقشة التكاليف السياسية والعسكرية لها بموضوعية.

نحو إعلام أكثر توازناً

إن التحدي الأكبر الذي يواجه الإعلام العربي اليوم هو كيفية الحفاظ على تعاطفه مع القضية الفلسطينية دون الوقوع في فخ التكرار أو التحيز الأعمى. فالمطلوب ليس التوقف عن تغطية غزة، بل تغطيتها بطريقة ذكية تقدم المعلومات دون تضخيم، والتحليل دون انحياز، والمشاعر دون استنزاف.

فقط عندما ينجح الإعلام في تحقيق هذا التوازن، سيستعيد الجمهور ثقته فيه، وسيصبح قادراً على لعب دور حقيقي في تشكيل الوعي العام، بدلاً من أن يكون مجرد أداة لتكرار الأخبار المأساوية يومياً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى