فضائيات

عندما غابت صدى الملاعب ، هل فقد الإعلام الرياضي روحه ؟

في عالمٍ تتشابك فيه الأصوات وتتصادم الصور، حيث تتنافس البرامج التلفزيونية لجذب انتباه المشاهدين بعنفوانٍ رقميٍّ لا يرحم، برزت “حصة صدى الملاعب” كواحدة من أبرز العلامات الفارقة في تاريخ البرامج الرياضية العربية.

لسنواتٍ طويلة، كانت الحصة تُشكِّل موعداً أسبوعياً ثابتاً لعشاق الرياضة، وخصوصاً كرة القدم، الذين التمسوا فيها مساحةً تجمع بين التحليل العميق والذكريات العاطفية، بين الإثارة الصحفية والصدق الإنساني. لكن مع إعلان قناة MBC عن إنهاء عرض البرنامج، بدأ الحديث عن نهاية حقبةٍ إعلاميةٍ ارتبطت بذاكرة جيلٍ كامل، وعن تحوُّلاتٍ جذريةٍ في مفهوم المحتوى الرياضي وطريقة استهلاكه.

لم تكن “حصة صدى الملاعب” مجرد برنامجٍ يُلخِّص الأحداث الرياضية؛ بل كانت سرديةً متكاملةً تحوِّل المباريات إلى قصصٍ إنسانية، واللاعبين إلى أبطالٍ أو شخصياتٍ درامية.

منذ انطلاقتها، تمكَّنت الحصة من خلق توازنٍ نادرٍ بين الصحافة المهنية والدراما الترفيهية، حيث حوَّلت تقاريرها الميدانية ونقاشاتها الاستوديوهية إلى فسحةٍ جماعيةٍ للمشجعين يتشاركون فيها الانتصارات والهزائم، بل ويتجاوزون ذلك إلى مناقشة القضايا الاجتماعية والسياسية التي تتداخل مع الرياضة. كانت الحصة مرآةً عاكسةً لتحوُّلات المجتمع العربي نفسه؛ فمن خلال تغطيتها للدوريات المحلية والعالمية، لم تكتفِ بمتابعة الأهداف والبطولات، بل غاصت في تفاصيل مثل دور الرياضة في تشكيل الهوية، وتأثير الرعايات التجارية على براءة اللعبة، وحتى علاقة السلطة بالرياضة كأداةٍ لصناعة الرأي العام.

ما ميّز البرنامج أيضاً هو قدرته على التطوُّر مع الزمن دون أن يفقد جوهره. ففي عصر تحوَّلت فيه الشاشات الصغيرة إلى منصاتٍ تفاعليةٍ، وظهور منصات البثّ المباشر ووسائل التواصل الاجتماعي، حاولت “صدى الملاعب” أن تواكب العصر من خلال إدخال تقنياتٍ بصريةٍ متطورة، واستضافة نخبةٍ من الخبراء الذين يجمعون بين الخبرة الرياضية والحضور الإعلامي، بل وفتحت الباب لمشاركة الجمهور عبر استطلاعات الرأي المباشرة وتفاعلاتهم عبر الهاشتاقات.

لكن رغم هذه المحاولات، يبدو أن قرار إيقاف البرنامج جاء نتيجةً لتراكم عوامل عدّة؛ فمن ناحية، هناك تحوُّلٌ كبيرٌ في عادات المشاهدة، حيث لم يعد الجمهور العربي، وخاصةً الأجيال الشابة، مقيّداً بمواعيد البثّ التلفزيوني التقليدية، مفضِّلاً المحتوى القصير والسريع الذي توفِّره المنصات الرقمية. ومن ناحية أخرى، فإن المنافسة الشرسة بين القنوات الرياضية المتخصّصة، التي تعتمد على بثّ المباريات بشكلٍ حصريٍّ وتحليلها بلغةٍ شبابيةٍ أكثر جرأةً، جعلت البرامج الاستوديوهية التقليدية تبدو وكأنها تعيش على أمجاد الماضي.

لا يمكن فصل قرار إنهاء “حصة صدى الملاعب” عن التحوُّلات الاستراتيجية التي تشهدها مجموعة MBC نفسها، والتي تتّجه بشكلٍ متسارعٍ نحو تعزيز محتواها الدرامي والترفيهي، مع تقليل التركيز على البرامج الحواريّة والتحليلية التي تتطلّب مواردَ بشريةً وميزانياتٍ كبيرة. في هذا السياق، قد يُنظَر إلى إيقاف البرنامج كخطوةٍ “اقتصاديةٍ” بحتةٍ في ظلِّ تراجع عوائد الإعلانات التلفزيونية لصالح المنصات الرقمية، لكنّ هذا التفسير المادّي يغفل جانباً أكثر عُمقاً يتعلَّق بتراجع الدور الثقافي الذي لعبته مثل هذه البرامج في تشكيل الوعي الجمعي. فـ”صدى الملاعب” لم تكن ترفيهاً رياضياً فحسب، بل كانت منبراً يُناقش من خلاله قضايا مثل العنصرية في الملاعب، وفساد الاتحادات الرياضية، ودور المرأة في المجال الرياضي، مما جعلها جزءاً من خطابٍ نقديٍّ تجاوز حدود اللعبة نفسها.

رغم ذلك، يبقى إرث البرنامج ماثلاً في ذاكرة ملايين المشاهدين الذين رافقوه عبر عقود. فالأصوات التي ارتبطت به، من مذيعينٍ ومراسلين، أصبحت جزءاً من قاموس المشاهد الرياضي العربي، كما أن مقاطعاً من حلقاته التاريخية، مثل تلك التي غطّت كأس العالم أو الأحداث الكبرى في الدوريات العربية، لا تزال تُذكَر كمراجعَ إعلاميةٍ لجيلٍ من الصحفيين الشباب.

بل إن البرنامج أسهم في صناعة نجوميةٍ لبعض الشخصيات الرياضية التي تحوَّلت بفضل ظهورها المتكرر فيه إلى أيقوناتٍ ثقافيةٍ، مما يعكس قوّة الإعلام في تحويل الرياضة من مجرّد لعبةٍ إلى ظاهرةٍ جماهيريةٍ معقَّدة.في الختام، إن إنهاء عرض “حصة صدى الملاعب” ليس مجرد تغييرٍ في شبكة برامج قناةٍ تلفزيونيةٍ، بل هو علامةٌ على نهاية نموذجٍ إعلاميٍّ كان قادراً على الجمع بين الإخبار والتثقيف والتأثير العاطفي. قد تكون هذه النهاية حتميةً في ظلِّ ثورةٍ رقميّةٍ تعيد تشكيل كل المفاهيم، لكنها تدفعنا إلى التساؤل عن مستقبل المحتوى الرياضي العربي: هل سيقتصر على التعليقات السريعة والإحصاءات الجافة؟ أم سيبحث عن أشكالٍ جديدةٍ تلبّي حاجة الجمهور إلى القصص الإنسانية التي تمنح الرياضة روحها؟ ربّما تكون “صدى الملاعب” قد أغلقت ستارها، لكن صدى أسئلتها سيظلُّ يتردَّد في كلّ ملعبٍ وفي كلّ شاشةٍ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى