كواليس

الإعلام العربي: آلة التزييف وقمع الحقيقة

“احذر من الصحف، فقد تجعلك تكره المقهورين وتحب من يقهرهم.” هذه الكلمات التي أطلقها مالكوم إكس قبل عقود، تبدو اليوم كنبؤة تحققت بامتياز في عالمنا العربي. فالإعلام الذي يفترض أن يكون مرآة الواقع وسيف الحقيقة، تحول إلى أداة طيّعة في يد الأنظمة، يُشوه وعي الجماهير ويُغيّب قضاياهم الحقيقية تحت سيل من الترفيه المُخدّر والأجندات المُعلبة.

لم يعد خافياً أن معظم وسائل الإعلام العربية تعمل وفق خطط مرسومة سلفاً، تفرضها الحكومات أو النخب المالية المتحالفة معها. فبدلاً من مناقشة توزيع الثروة، نجد زخماً من المحتوى عن “النجاح الفردي” و”ريادة الأعمال”، وكأن الفقر ناتج عن كسل المواطن لا عن سياسات اقتصادية فاشلة. وبينما تُثار نقاشات لا تنتهي عن الهوية والتراث، يتم تجنب أي حديث جاد عن الفساد أو انهيار الخدمات الصحية والتعليمية.

الأخطر هو تحويل الإعلام إلى ماكينة لتبرير الوضع القائم. فحين ترتفع أسعار الوقود، يُلقى باللوم على “الظروف العالمية”، وحين تتفشى البطالة، تُحمّل المسؤولية للشباب “غير المؤهل”. أما دور الحكومات فيُختزل في صورة “البطل المنقذ” الذي يحاول “تحمل الأعباء”!

بعد صدمة الربيع العربي، أدركت الأنظمة أن الإعلام الحر هو العدو الأكبر لاستقرارها الزائف. فتحولت من سياسة القمع المباشر إلى استراتيجية أكثر دهاءً: السيطرة على المنصات الإعلامية نفسها. في مصر، مثلاً، أصبحت مؤسسات الإعلام الكبرى امتداداً لأجهزة الأمن، بينما في دول الخليج، تحولت القنوات إلى أدوات في سباق النفوذ الإقليمي، كل منها يروج لروايته الملوّنة.

لم تعد الرقابة تعني فقط منع المعلومات، بل أصبحت صناعة واقع بديل. فبينما يعاني المواطن من انهيار القدرة الشرائية، تُغرق الشاشات ببرامج الطبخ ومسابقات الغناء. وحين تُغلق ملفات الفساد في المحاكم، تتحول المناقشات السياسية إلى مهزلة يتبارى فيها “خبراء” مُعدّون سلفاً لتبرئة النظام.

اللعبة واضحة: يمكنك الحديث عن كل شيء إلا الجوهر. يمكنك مناقشة “إصلاح التعليم” دون ذكر ميزانيته المهدرة، أو التحدث عن “الاستثمار” دون كشف كيف ينهب النخبويون ثروات البلد. حتى النقاشات السياسية أصبحت مجرد ديكور، تُدار كمسرحية يخرج منها الجمهور بالرسالة ذاتها: “لا مفر من الواقع، فاستسلم واستمتع بالعرض!”

رغم هذا المشهد الكئيب، تبقى بقع ضوء. بعض المنصات المستقلة والصحفيين الشجعان يحاولون كسر الحصار، لكنهم يواجهون حرباً غير متكافئة: تهم جاهزة، تمويل مقطوع، أو حتى اختفاء قسري. ومع ذلك، يثبت التاريخ أن الحقيقة لا تُقتل، بل تُدفن مؤقتاً إلى أن يزيحها الناس من تحت ركام الأكاذيب.

اليوم، أصبح تحرير الإعلام معركة وجودية. فبدون إعلام حر، لن يكون هناك وعي جمعي، وبدون وعي، لن يكون تغيير. والسؤال الذي يفرض نفسه: كم من الأوهام سنبتلع قبل أن نستفيق؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى