ذكاء إصطناعي

“الذكاء الاصطناعي يغزو الصحافة: هل نحن أمام ثورة أم وهم؟”

منذ بدء الحضارة، سعى الإنسان إلى تخفيف أعباء العمل عبر اختراع الآلات. بدءًا من القنوات المائية التي سهّلت الري، وصولًا إلى الساعات الميكانيكية التي نظّمت الوقت، كانت الآلات دائمًا امتدادًا للإرادة البشرية. اليوم، لم تعد الآلات تقتصر على المهام الميكانيكية، بل تجاوزتها إلى صنع القرارات المعقدة، خاصة مع صعود الذكاء الاصطناعي الذي يطرح أسئلة وجودية: هل نثق بآلة لتقرر نيابة عنا؟ وهل يمكن تفويضها في مجالات حساسة مثل الصحافة؟

لم يعد الحديث عن الطائرات المسيّرة أو السيارات ذاتية القيادة هو الأكثر إثارة، بل تجاوزته المناقشات إلى أدوات ذكية قادرة على كتابة الأخبار دون تدخل بشري. هذا بالضبط ما تقدمه منصات مثل “Channel 1” و“NewsGPT”، التي تتبنى مفهوم “الأخبار الأصلية المولَّدة بالذكاء الاصطناعي” (AI Native News)، حيث يُنتج الخبر من الألف إلى الياء بواسطة الخوارزميات، بدءًا من اختيار الموضوع، مرورًا بالصياغة، وانتهاءً بالنشر.

وفقًا لمؤسس المنصة، آلان ليفي، فإن الذكاء الاصطناعي هنا ليس مجرد أداة مساعدة، بل هو محرر رئيسي يتولى جميع المراحل:

  • البحث: يجمع البيانات من مصادر متنوعة، بما في ذلك الشبكات الإخبارية الكبرى وحتى منشورات التواصل الاجتماعي.
  • الصياغة: يعتمد على نموذج لغوي خاص يُدعى “شيلدون” (ليس مرتبطًا بمنصات مثل ChatGPT).
  • النشر: يتم دون مراجعة بشرية، بحيث يرى القارئ والمطور الخبر في نفس اللحظة!

لكن الأكثر إثارة هو قسم “أخبار الغد” (Tomorrow’s News Today)، الذي يعدّ القراء بأخبار مستقبلية تشبه توقعات الطقس، بناءً على تحليلات إحصائية طورها خبراء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT).

عند تحليل عينة من مقالات “NewsGPT”، تظهر مشكلات عميقة:

  1. المركزية الأمريكية: 68.7% من الأخبار تتناول الولايات المتحدة، بينما تُهمَّش مناطق مثل فلسطين (5.1%)، رغم الأزمة الإنسانية هناك.
  2. انحياز سردي: اعتماد المصادر الغربية والإسرائيلية بشكل كبير، مما يكرر الرواية الصهيونية دون نقد.
  3. الانتحال الأدبي: في بعض المقالات، وصل التشابه مع المصادر الأصلية إلى 100%، ما يجعلها أقرب إلى “نسخ ولصق” ذكي!

يدعي “NewsGPT” أنه يقدم “الحقيقة غير الإنسانية”، لكن التحليل يكشف أن الآلة تكرر تحيزات مصادرها البشرية. فبدلًا من الحياد، نجد تضخيمًا للروايات الغربية، وإغفالًا للجنوب العالمي. والأخطر هو غياب المراجعة البشرية، مما يفتح الباب أمام نشر معلومات مشوهة أو منحولة.

رغم الادعاءات بأن الذكاء الاصطناعي سيخلّص الصحافة من التحيز البشري، فإن الواقع يُظهر أن الآلة – حتى الآن – ليست سوى مرآة تعكس تحيزات مبرمجيها ومصادر بياناتها. ربما تكون هذه التجارب المبكرة خطوة نحو مستقبل مختلف، لكنها تذكرنا بأن التكنولوجيا ليست محايدة، بل هي أداة تُشكّل وفقًا لأيديولوجيات من يسيطر عليها. والسؤال الأصعب: هل نريد حقًا أن نسلّم صناعة الأخبار – وأخطرها السياسية – لآلة لا تملك ضميرًا؟

الإجابة ليست بين يدينا اليوم، لكن المراقبة النقدية لهذه التجارب ستكون ضرورية لتجنب مخاطر صحافة بلا روح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى