الهوية الثقافية في زمن العولمة: هل نخسر أنفسنا ؟

بقلم /هديل كشرود
طالبة ماستر 2 سمعي بصري
في عالمٍ باتت فيه الحدود تتلاشى، والتقاليد تُذاب شيئًا فشيئًا في بوتقة الحداثة والعولمة، تبرز تساؤلات ملحّة حول الهوية الثقافية، تلك البوصلة التي لطالما دلت الشعوب على ذاتها، وجعلتها تعرف من تكون، وإلى أي عمقٍ تمتد جذورها. فهل ما نعيشه اليوم هو انفتاح ثقافي بنّاء؟ أم تآكل تدريجي لهويتنا وانسلاخ عن ذواتنا؟
الهوية الثقافية.. أكثر من مجرد فولكلور
عندما يُطرح مصطلح “الهوية الثقافية”، يتبادر إلى أذهان الكثيرين صور الأزياء التقليدية، أو الأغاني الشعبية، أو المهرجانات الفلكلورية. ورغم أن هذه العناصر تُشكل جزءًا مرئيًا وجميلًا من الثقافة، إلا أن الهوية أعمق بكثير من أن تُختزل في مشهد استعراضي أو مناسبة موسمية.
الهوية الثقافية هي البُنية الخفية التي تُشكل وجدان الإنسان وموقفه من الحياة. هي اللغة التي نتكلمها في البيت، والأمثال التي نرددها دون وعي، والطقوس التي نمارسها في الأعياد والمآتم، والقصص التي نرويها لأطفالنا. هي مرآة التاريخ في وجه الحاضر، وحلقة الوصل بين الأجيال.
وفي زمن العولمة، باتت هذه الهوية مهددة بالتآكل من الداخل، لا بالسلاح، بل بالإبهار البصري والصوتي الذي تمارسه الثقافة المُهيمنة. تدريجيًا، تصبح اللغة الأم “محرجة”، والأمثال الشعبية “قديمة”، والقصص التراثية “غير مثيرة”. ويبدأ الفرد بالتنكر لهويته طمعًا في قبول خارجي، ليكتشف لاحقًا أنه صار بلا مرآة.. بلا جذور.
جيل بلا ذاكرة؟
الطفل الذي يكبر اليوم أمام شاشة هاتف، ويتلقى معارفه الأولى من “تيك توك” و”يوتيوب”، يعيش تجربة ثقافية غير مسبوقة في التاريخ البشري. لم يعد يتعلم من جدته كيف يُحضِّر الخبز التقليدي أو ينسج الحكاية، بل من مؤثر رقمي قد لا يعرف معنى جذوره هو نفسه.
في الماضي، كانت الأسرة والمدرسة والمجتمع تشكل مثلثًا يحفظ الهوية، لكن هذا المثلث تَفَتَّت أمام سرعة الصورة وتدفق المعلومة. وغاب دور الراوي، وحضرت خوارزميات الترند. نتحدث عن جيل يعرف أسماء مشاهير غربيين أكثر من أبطاله المحليين، يُجيد محاكاة لهجات الآخرين وينسى نغمات لغته الأم.
المشكلة لا تكمن في “الإنفتاح”، بل في غياب “المرجعية”. حين لا يجد هذا الجيل مَن يُعرِّفه بثقافته بأسلوب عصري وجذاب، سيبحث عمن يفعل ذلك ولو كان بعيدًا عنه لغويًا أو وجدانيًا. وهنا تصبح الهوية خيارًا لا قدرًا، وتغدو الأصالة عبئًا بدل أن تكون مصدر اعتزاز.
الثقافة ليست عزلة.. لكنها مقاومة
من الأخطاء الشائعة أن يُفهم الدفاع عن الهوية الثقافية على أنه رفض للآخر أو تَحجِّر وانغلاق. الحقيقة أن الثقافة الحيّة لا تخاف التبادل، لكنها لا تقبل الذوبان. هي قادرة على استيعاب الجديد دون أن تفقد روحها. تمامًا كما تستقبل الشجرة المطر، لكنها تظل مغروسة في تربتها.
الإحتكاك الثقافي ليس مشكلة في ذاته، بل هو أحد أوجه تطور الحضارات، شرط أن يتم على قاعدة من التكافؤ والوعي. أن نأخذ من الآخر ما يُلهمنا، ونمنحه ما يُعرِّف بنا. أن نكون جزءًا من المحادثة العالمية، لا مجرد صدى لما يُقال فيها.
وفي هذا السياق، يصبح الحفاظ على الهوية نوعًا من “المقاومة الناعمة”. مقاومة ضد التبعية، ضد الإستهلاك الثقافي الأعمى، ضد الطمس الرمزي للخصوصيات. الثقافة ليست متحفًا جامدًا، بل كيانًا حيًا يُقاوِم لكي يبقى نابضًا في عالم يتغير كل لحظة.
من المسؤول عن حماية الهوية؟
حين تضيع الهوية، لا يُلام الجيل الشباب وحده. فغياب المشروع الثقافي، وتهميش اللغة الأم في المدارس، وتحويل الفن إلى سلعة، كل ذلك يُسهم في صنع فراغ تملؤه ثقافات أخرى. لهذا فالمسؤولية جماعية: تبدأ من الأسرة ولا تنتهي عند الدولة.
الأسرة يجب أن تُعيد الإعتبار للغة الأم، للحكاية، للأغنية القديمة. المدرسة ينبغي أن تُعلِّم التاريخ لا كمادة حفظ، بل كحكاية ممتعة ومُلهمة. الإعلام مُطالب بأن يُبرز رموزنا الثقافية، لا أن يكتفي بنسخ المستورد. الفنانون والمثقفون عليهم أن يُعيدوا صياغة التراث بلغة العصر، وأن يجعلوا من الهوية مادة فنية راقية وجذابة.
أما الفرد، فبيده الكثير. أن تلبس ما يُعبر عنك، أن تتحدث لغتك بفخر، أن تقرأ أدبك المحلي، أن تشارك أطفالك حكايات جداتهم.. كل ذلك فعل مقاومة حضارية. فالهوية لا تُحمى فقط في الكتب، بل في تفاصيل الحياة اليومية.
في زمن العولمة.. من لا يروي قصته يُروى عنه
نعيش في عالم يتسابق فيه الجميع على رواية قصته. والذين لا يُنتجون سرديتهم، يُصبحون مادة في سرديات الآخرين. لذلك، فإن السؤال لم يعد: “هل سنحافظ على هويتنا؟”، بل “هل نملك الشجاعة والذكاء لنُعيد تعريفها في عالم سريع الزوال؟”.
الهوية ليست شيئًا ثابتًا يُخزن في أرشيف، بل هي مشروع مستمر يُعاد بناؤه جيلًا بعد جيل. وكلما عرفنا من نحن، استطعنا أن نُقدم أنفسنا للعالم بثقة، لا بانبهار. لأننا حين نروي قصتنا بأنفسنا، نُصبح شركاء حقيقيين في رسم صورة الإنسانية.