“العباقرة” برنامج تلفزيوني يجسد ثورة الثقافة والتعليم في العالم العربي

خالد حسين – كاتب و إعلامي مصري .
في عالمٍ تتصارع فيه البرامج الترفيهية السطحية على جذب الانتباه، يبرز برنامج “العباقرة” الذي يقدمه الروائي والإعلامي عصام يوسف كظاهرة ثقافية فريدة. لا يقتصر هذا البرنامج على كونه مسابقةً علميةً تقليديةً، بل هو مشروعٌ تنويريٌ يهدف إلى إحياء العقل العربي وتفعيل دوره في بناء المجتمعات. من خلال تحليلٍ نقديٍ متعمق، تسلط هذه المقالة الضوء على أبعاد البرنامج الثقافية والتعليمية، وتأثيره في تشكيل وعي الشباب العربي، مستندةً إلى مصادر متنوعة تشمل حوارات مع مقدم البرنامج، وتقارير إعلامية، وتحليلات أكاديمية.
الجذور التاريخية والإرث الثقافي للبرنامج
يرتبط “العباقرة” بجذور عميقة في التاريخ الإعلامي المصري، حيث استلهم فكرته من برنامج “الكأس لمين” الذي قدمه والد عصام يوسف، الكاتب عبد التواب يوسف، في ستينيات القرن الماضي. كان البرنامج الأب يعتمد على مسابقة بين طلاب المدارس، لكن “العباقرة” أعاد صياغة الفكرة بتحديثاتٍ تواكب العصر، مثل إدخال فقرات “تحت الضغط” و”عجلة الحظ”، مما جعله مزيجًا بين التثقيف والتشويق.
ويوضح عصام يوسف في حواراته أن فكرة البرنامج ولدت من حوارٍ مع والده، الذي نصحه بإنشاء “نسخة معاصرة” تلامس تحديات الشباب اليوم، مثل أزمة التعليم وضعف الاهتمام بالعلوم. هكذا، تحوّل “العباقرة” إلى جسرٍ بين الأجيال، يحمل رسالةً تربويةً مستمدةً من إرثٍ عائليٍ ثقافيٍ، حيث كانت والدته نتيلة راشد (ماما لبنى) رائدةً في أدب الأطفال عبر مجلة “سمير”.
البنية الفنية والاستراتيجية التعليمية
يتميز البرنامج بهيكلٍ ديناميكيٍ يجمع بين المنافسة والتعلم. ففقراته مثل “العلم”، “المعرفة”، و”ضربات الجزاء” تُصمم بعناية لتحفيز التفكير النقدي والإبداعي. على سبيل المثال، تصل نسبة صعوبة الأسئلة إلى 60-70% فوق مستوى الطلاب، بهدف تحفيزهم على البحث والاستكشاف، وليس مجرد الاستظهار.
ويُبرز يوسف في حوار مع “المصري اليوم” أن الهدف الأساسي هو “التعليم غير المباشر”، حيث تتحول كل إجابةٍ صحيحةٍ إلى فرصةٍ لشرح مفاهيم علمية أو تاريخية، مما يخلق بيئةً تعليميةً تفاعليةً تصل إلى الملايين. كما أن دمج عناصر مثل “خزنة البنك الأهلي المصري” – التي تحوّل الإجابات الصحيحة إلى مبالغ مالية لدعم الرياضيين – يضفي بعدًا اجتماعيًا يشجع على المشاركة المجتمعية.
الدور المجتمعي والشراكات الاستراتيجية
لا يقتصر نجاح “العباقرة” على المحتوى التلفزيوني، بل يتعداه إلى شراكاتٍ مؤسسيةٍ عميقة. يُعتبر البنك الأهلي المصري شريكًا استراتيجيًا لا يقتصر دعمه على التمويل، بل يشمل تطوير البنية التحتية للمدارس الحكومية، وتوفير منح دراسية للطلاب المتفوقين. ففي الموسم الرابع، حصلت مدرسة “يوسف عطوان” من قرية صغيرة بالشرقية على الكأس، مما يؤكد التزام البرنامج باكتشاف المواهب في المناطق المهمشة.
كما يوضح يوسف أن البرنامج قدم أكثر من 50 منحةً دراسيةً عبر جامعة النيل، ورحلاتٍ ترفيهيةً إلى أوروبا، مما يعكس رؤيةً شاملةً لتمكين الشباب علميًا وثقافيًا.
التأثير الثقافي وتحديات العصر الرقمي
في عصرِ هيمنةِ المنصات الرقمية والسوشيال ميديا، نجح “العباقرة” في خلق توازنٍ بين الأصالة والحداثة. فبرغم استخدامه لتقنياتٍ بصريةٍ جذابة، حافظ البرنامج على جوهره كمنصةٍ للعلم والمعرفة، مما جعله يحصد إعجابًا واسعًا من الأسر العربية. وتشير تعليقات الجمهور إلى أن البرنامج حوّل مشاهدة التلفزيون إلى نشاطٍ عائليٍ مشترك، حيث يتنافس الأبناء والأمهات في الإجابة على الأسئلة.
غير أن البرنامج واجه انتقاداتٍ حول صعوبة أسئلته، والتي رد عليها يوسف بالقول: “الهدف ليس الإجابة، بل التعلم”. كما تعرض لاتهاماتٍ بالتحيز في اختيار المدارس، لكن آلية الاختيار المعتمدة على اختباراتٍ مجانيةٍ دون وساطاتٍ دحضت هذه الشائعات.
رؤية نقدية لمستقبل البرنامج
رغم النجاحات، تبقى تحدياتٌ كبيرةٌ تواجه “العباقرة”، أبرزها ضرورة التوسع ليشمل دولًا عربيةً أخرى، واستقطاب شركاء إقليميين لتعزيز تأثيره. كما أن الاعتماد الكبير على الدعم المادي من البنك الأهلي يطرح تساؤلاتٍ حول استدامة النموذج في حال تغير الظروف الاقتصادية.
من ناحيةٍ أخرى، يطمح يوسف إلى إطلاق نسخةٍ من البرنامج موجهةٍ للأطفال دون العاشرة (“العباقرة كيدز”)، مما قد يضمن استمرارية الرسالة التعليمية عبر الأجيال.
“العباقرة” كنموذجٍ للإعلام الهادف
برنامج “العباقرة” ليس مجرد مسابقةٍ تلفزيونيةٍ، بل هو حركةٌ ثقافيةٌ تعيد تعريف دور الإعلام في العالم العربي. من خلال دمج التعليم بالترفيه، واستثمار الشراكات المجتمعية، وتبني رؤيةٍ طويلة المدى لتمكين الشباب، يقدم عصام يوسف نموذجًا يُحتذى به في زمنٍ تطغو عليه الثقافة الاستهلاكية. إن نجاح هذا البرنامج يؤكد أن الإعلام الجاد قادرٌ على صنع التغيير، شرطَ أن يكون رسالةً قبل أن يكون سلعةً.