ناصر الخليفي ، حينما يتحول الإعلام إلى سلطة موازية .

في عالم الإعلام الرياضي المعاصر، لا يمكن الحديث عن موازين القوة دون التوقف مطوّلًا عند اسم ناصر الخليفي. فالرجل الذي نشأ في قطر كلاعب تنس متواضع الطموحات، لم يكتف بأن يصنع لنفسه مكانًا في المشهد الرياضي، بل اختار أن يغيّر قواعد اللعبة ذاتها. بذكاء استثنائي، واستراتيجية طويلة النفس، تحوّل الخليفي إلى أحد أبرز رجال الإعلام والرياضة في العالم، مطوّرًا شبكة نفوذ معقدة لا تقتصر على البث الحصري أو ملكية الأندية، بل تتعداها إلى التأثير في القرارات والمصالح التي تشكّل بنية الرياضة العالمية نفسها.
حين أطلقت قطر شبكتها الرياضية الخاصة ضمن إطار قناة الجزيرة، كان يُنظر إليها كمحاولة عربية لتحدي هيمنة المؤسسات الغربية في مجال البث الرياضي. لكن مع انفصال “الجزيرة الرياضية” عن قناتها الأم، وإعادة تشكيلها تحت اسم “beIN”، بدأت ملامح مشروع أضخم تظهر في الأفق. لم يكن الهدف مجرد تقديم محتوى رياضي للمشاهد العربي، بل خلق قوة إعلامية عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية. وسرعان ما تحقّق ذلك من خلال التوسّع في القارات المختلفة، وشراء حقوق بث بطولات كبرى، واختراق أسواق اعتُبرت لعقود حكرًا على منصات أوروبية وأمريكية.

ما فعله ناصر الخليفي لا يمكن وصفه فقط في إطار النشاط الإعلامي، بل هو ضرب من السياسة الناعمة، حيث جرى استخدام الرياضة كمنصة للتأثير، والحقوق الحصرية كوسيلة للتحكم في السرد، والنادي الرياضي كأداة لبناء صورة وطنية متكاملة. فشراء باريس سان جيرمان لم يكن صفقة معزولة، بل لبنة أخرى في هذا الصرح المتكامل. تحوّل النادي الباريسي إلى نجم ساطع في كرة القدم العالمية، ليس فقط بأدائه أو نجومه، بل بشخصيته الجديدة المرتبطة بأجندة إعلامية واقتصادية واضحة المعالم.
يبدو ناصر الخليفي، من خلال هذه الاستراتيجية، وكأنه يعيد صياغة مفهوم “الإمبراطورية” ليتلاءم مع العصر الرقمي. لم يعد النفوذ يُقاس فقط بعدد الصحف أو القنوات التي تملكها، بل بقدرتك على احتكار المشهد، على التحكّم بما يُشاهَد ومتى، على وضع قواعد التفاعل بين الجمهور واللعبة. ومن خلال هذه الزاوية، يمكن فهم سر الاهتمام البالغ الذي توليه المؤسسات الأوروبية والدولية لشخص الخليفي. فالرجل لم يكتف بالمنافسة، بل نجح في الدخول إلى عمق صناعة القرار، جالسًا على طاولات يُرسم فيها مستقبل كرة القدم، ويُحدد فيها مصير مليارات الدولارات من الإيرادات والبثوص.
ومع هذا النفوذ المتزايد، من الطبيعي أن يُقابل الخليفي بحملات واتهامات وشبهات، فالساحة التي اختارها لا تخلو من الصراعات والمصالح المتضاربة. وقد واجه في أكثر من مناسبة ملفات قانونية في أوروبا تتعلّق بحقوق البث والصفقات المشبوهة. لكنه ظل حاضرًا بقوة، متماسكًا أمام الهجمات، محافظًا على موقعه في قلب اللعبة، بل وأكثر من ذلك، تمّت ترقيته إلى مناصب جديدة تدل على ثقة المؤسسات الكبرى به، وإنْ تباينت الآراء حول نواياه أو أسلوبه في التوسّع.
ما يميّز تجربة الخليفي، وربما يجعلها نموذجًا فريدًا في العالم العربي، هو هذا المزج الفريد بين الرؤية الاقتصادية الطموحة، والذكاء الإعلامي، والحضور السياسي غير المباشر. لم يقتصر تأثيره على المشاهدين العرب، بل صار رقمًا صعبًا في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا، حيث تسعى منصاته لإعادة تشكيل علاقة الجمهور بالرياضة. وربما الأهم من كل ذلك، أن الرجل يمثل وجهًا من وجوه التحوّل الكبير الذي تمرّ به دول الخليج، من اقتصاديات نفطية إلى قوى ناعمة تعتمد على الثقافة، الترفيه، والإعلام.
في النهاية، لا يمكن اختزال مشروع ناصر الخليفي في نجاحات رياضية أو صفقات إعلامية. إنه حالة شاملة، درس في كيفية تحويل الطموح الفردي إلى قوة مؤسسية عالمية، واستغلال الفرص التي يوفّرها العصر الرقمي لتشكيل صورة جديدة للنفوذ العربي. وفي عالم سريع التغيّر، يبدو أن الخليفي لم يبلغ بعد ذروة مشروعه، بل إنه لا يزال في منتصف الطريق نحو إعادة رسم الخريطة العالمية للإعلام الرياضي.