كانت بعض التعليقات على منشور جريدة الأيام حول السيدة وردة تعبيرا عن سقوط أخلاقي لا يُشرف كتبتها، وإن كان معظمهم استعمل، كالعادة، توقيعات مستعارة، لأنها كشفت خلفياتهم المريضة.وأحسست أن من واجبي أن أقدم ما أعرفه عن تعامل الرئيس هواري بو مدين مع الفنانة الكبيرة، التي دفنت في منطقة إطارات الدولة بمقبرة العالية (وليس في مربع الشهداء كما يظن البعض) لأنها تحمل وساما وطنيا منحه إياها الرئيس عبد العزيز بو تفليقة.وبداية أوضح أن منطلق بو مدين الأساسي في التعامل مع الفن كان الاهتمام بترسيخ اللغة العربية جماهيريا، ومن هنا كان تشجيعه للفكاهي الجزائري “حديدوان”، ولأن الرئيس كان معجبا بما يقدمه الفنان للأطفال، أراد تشجيعه وطلب رؤيته حين علم بوجوده ضمن إحدى الفرق التي حطت الرحال بتمنراست تزامنا مع زيارته للولاية، وفوجئ حين رآه بدون مكياج ولا لباس البهلوان، فقال له ضاحكا بالعامية التي ألفناها من الفنان: “ما عرفتكش من غير المكياج (راك بو غوص BEAU GOSSE) وهي الجملة التي أسعدت الفنان وظل يرددها لكل من يراه.ولعل نفس الأمر ينطبق على دعم الرئيس لبرنامج الحديقة الساحرة التي كان يقدمها الأمين بشيشي، وكان لها جمهورها الوفيّ المتابع لها والمتأثر بها في التلفزة الجزائرية، بحيث استطاعت أن تجعل من اللغة العربية الفصحى وجودا طبيعيا في حياة صغار التلاميذ بل وكبارهم، وكانت كذلك متابعة الرئيس تمثيليات التلفزة التي كانت تقدم بعربية بسيطة أقرب إلى الفصحى، مثل شجرة الصفصاف، والمسلسلات التي تناولت نضال الشعب الجزائري مثل “الحريق” وغيرها، وبالطبع كل الأغاني التي تستعمل لغة فصحى أو أقرب إلى الفصحى، مثل أغاني صليحة الصغيرة. وكان الاحتفال بالعيد العاشر للاستقلال في يوليو 1972 في صلب الاهتمامات الوطنية، وكان واضحا لديّ أن الرئيس يريد أن يُسجّل الاحتفال بالذكرى العاشرة للاستقلال انطلاق مرحلة جديدة من مراحل البناء الوطني.وجاءت هنا فكرة دعوة السيدة وردة لتكون نجم الاحتفالات، وأظن، وأقول أظن، أن من يقف وراء الفكرة كان الأخ شريف بلقاسم، وتلقف الرئيس الفكرة لأنها كانت تستجيب لرغبة دفينة في نفسه، عاشها في القاهرة وهو يرى دور السيدة أم كلثوم الفني، خصوصا على الساحة العربية، بل والدولية.والذي حدث هو أن السنوات التي قضاها بو مدين في مصر، رائدة اللغة العربية آنذاك، جعلته يدرك أن ارتقاء اللغة العربية في الشارع العربي لم يكن أساسا ودائما بفضل طه حسين والعقاد والمازني والمنفلوطي والرافعي وأحمد شوقي وغيرهم من كبار الكتاب والأدباء، فهؤلاء كانوا غالبا يتجهون للنخبة، وللخاصة التي كان عددها محدودا في مواجهة أمية كاسحة، تماما كما كانت الوضعية في الجزائر إثر استرجاع الاستقلال، ولكن العامل الذي قام بعملية تطهير للعامية وتنشيط للفصحى في الشارع المصري وفي المشرق بأكمله كان محمد عبد الوهاب وأم كلثوم ثم نجاة الصغيرة وعبد الحليم حافظ، فقد كان غناؤهم لأحمد شوقي وعلي محمود طه ومهيار الديلمي وأحمد فتحي وكامل الشناوي وأبو فراس الحمداني وأخيرا لنزار قباني نافذة كبيرة فُتحت للشعب هناك على اللغة العربية الفصحى، وبحيث كان هناك أميّون يحفظون عن ظهر قلب أغاني الكرنك وكليوباترا ونهج البردة وأراك عصيّ الدمع، ثم الجيل الصاعد ولا تكذبي ولست قلبي وغيرها، وهكذا “سوَّقت” الأغاني وروّجت لقصائدَ باللغة العربية الفصحى، لعلها كانت ستظل حبيسة الكتب ورهينة لقاءات النخبة، وهذا كله كان، في تصوري، خلفية الرئيس بو مدين وهو يتحمس لعودة السيدة وردة إلى الغناء. وأعتقدُ، بالإضافة إلى هذا أن بو مدين كان يريد أن تكون وردة بالنسبة للجزائر ما تمثله أم كلثوم لمصر وفيروز للبنان بل وماريا كالاس بالنسبة للأوبرا العالمية، وحتى داليدا، التي يغني لها العالم كله أغنية “يا مصطفى”، وأن تكون وردة تجسيدا للقوة الجزائرية الناعمة في غياب القوة الإعلامية المؤثرة للأسباب المعروفة، وأستطيع أن أزعم أنه كان يريد أن ترث وردة، ولم لا، صفة كوكب الشرق، وهكذا تكون فرصة دائمة لكي يردد الوطن العربي أغاني تمجد الجزائر وثورتها.وهنا كلفني الرئيس بالاتصال بالأخ صالح خرفي، الذي كان قد كتب لوردة قصيدة “نداء الضمير” في منتصف الخمسينيات، أي خلال الثورة، لأطلب منه أن يكتب لها قصيدة تكون استمرارا للقصيدة الأولى، واستجاب خرفي وكتب أنشودة “أدعوك يا أملي” لتكون، بتعبير لامين بشيشي، خبراً للمبتدأ الذي كانه “نداء الضمير”.واختارت السيدة وردة بليغ حمدي لتلحين القصيدة الجديدة، وهو ما أثار غضب رياض السنباطي ملحن القصيدة الأولى، لكن الرئيس طلب الاستجابة لرأي الفنانة الجزائرية، ورُحْنا، محمد راوراوا وبابا علي بن يوسف وأنا، نقنع بليغ في منزلي بالاستعانة بلحن جزائري ترويجا للفن الجزائري. وبالفعل، اقتبس بليغ جملة لحنية من أغنية “ما نيش منا”، وسارت الأمور كما أراد الرئيس، واتسمت الاحتفالات، كما أردنا لها، بتألق لا يقل كثيرا عن التألق الذي ميز فرحة الاستقلال الأولى. وكثيرون يرون أن السيدة وردة لم تحقق بعد ذلك ما كان الرئيس بو مدين يأمله، إذ غرقت في ترديد الأغاني المصرية، ولم يُـعْرف أنها أدت أغنية جزائرية واحدة في حفلاتها المشرقية.وفيما أعرفه فقد غنت ثلاث أو أربع أغنيات جزائرية، كانت أهمها “عيد الكرامة”، التي ألفها شاعر مصري ولحنها موسيقار مصري وأدتها فرقة مصرية، وهي أغنية لم تتح لها الفرصة لكي تغنّى في حفلات رسمية في مصر أو غيرها من الدول العربية، ولم يعرف الجميع إلا أغاني السيدة وردة باللهجة المصرية، ولم تحظ أغنيتا رياض السنباطي وبليغ حمدي عن الجزائر بأي وجود لدى العرب، بما في ذلك أشقائنا في المغرب العربي.ومن الظلم للسيدة وردة أن نتوقع منها أن تفرض إرادتها على الأشقاء في مصر، الذين فتحوا أمامها باب الرواج الفني في مصر والمشرق، في مرحلة كانت مصر تعيش فيها مرحلة الانفتاح التي أفسدت الأذواق، وقال عنها توفيق الحكيم بأنها كانت مرحلة “انفتاح الجيوب وانغلاق العقول”.ويعتقد كثير من المهتمين بالفنون أن بليغ، وهو عبقري موسيقي، اختار لها الأغاني التي تعالج إحساسه بمركب النقص الجثمانيويجب أن أقول هنا أنه كان من حق السيدة وردة أن تكون طموحة، وهذا يشرف الجزائر، وهي لم تكن تجهل أن مصر ثرية بعباقرة التلحين، لكنني كنت آمل أن تستعين مثلا بالأخوين رحباني في لبنان، وأن تقتدي بالسيدة فيروز، التي روّجت بعض الأغاني اللبنانية عبر الوطن العربي، بل وفي بريطانيا، وما رددته الفنانة اللبنانية من أغاني مصرية كانت غالبا باللغة العربية الفصحى، باستثناء أغنية “زوروني” التاريخية للموسيقار سيد درويش، في حين لا أعرف أن السيدة وردة غنت في المشرق أغنية بالعربية الفصحى، وأعتقد أنها كانت تفتقد مستشارين أكفاء يوفرون لها ما يضيف تألقا إلى تألقها.وكثيرون لا يعرفون أن مستشاري أم كلثوم كانوا نخبة متميزة يتقدمهم محمد حسنين هيكل ومصطفى أمين وفكري أباظة، ناهيك من أحمد رامي وعمالقة الموسيقى. (وكثيرون لا يتوقفون عند هذه النقطة)وهناك من يدعي أن الرئيس بو مدين هو الذي أمر بعدم دعوة السيدة أم كلثوم لاحتفالات العيد العاشر في الجزائر حتى لا يطغى وجودها على أداء وردة، وهذا غير صحيح، لأن الرئيس لم يتدخل إطلاقا في قضية الدعوات، وكنت أنا شخصيا من رفض دعوة السيدة أم كلثوم، وبمبادرة لم أستشر فيها أحدا، وكان مبرري أن أم كلثوم لم تنشد أي أغنية للثورة الجزائرية، وقلت أن حضورها مُرحّب به، لكننا لن ندعوها رسميا مع من دعوناهم لأنهم تغنوا بثورتنا، ومن بينهم محمد قنديل وفايدة كامل ونجاح سلام ومحمد سلمان وغيرهم ممن تغنوا بالجزائر، ودعونا أيضا هدى سلطان تكريما لذكرى أخيها محمد فوزي، ملحن النشيد الوطني الجزائري.ولا أستطيع أن أجادل من يقولون بأن الرئيس أصيب بخيبة أمل كبرى لأن ما كان يأمل في حدوثه ضاع مع الأيام، لكن ما أعرفه على وجه اليقين هو أنه، ومنذ 1972 وحتى وفاته في 1978، لم ينطق اسم السيدة وردة أمامي إطلاقا، ولم أسمعه يذكرها لا بخير ولا بشرٍّ.
شاهد أيضاً
أفرام نعوم تُشُومِسْكِي Avram Noam Chomsky ماذا يبقى منه للتاريخ
د . العيد جلولي _ أكاديمي و باحث جزائري . قيل اليوم أن المفكر واللغوي …