في مثل هذه الأيام، قبل 207 عامًا، سقط الرَّايَسٍ حَمِّيدُو بن علِي شهيدًا فوق سطح السفينة التي كان يقود من مقصورتها معركةً بحريةً ضاريةً وغيْرَ متكافئةِ القِوى. واجَهَ خلالها ببضعة قِطعٍ بحرية متواضعةِ القدرات أسطولاً أمريكيًّا قويًا مِن 9 إلى 10 سُفن بقيادة الأميرال سْتِيفِنْ دِيكَاتُورْ (Stephen Decatur) بين مياهِ جبل طارق ورأس غَاتَا (Capo de Gata) بساحل ألْمَرِيَّة الإسبانيَة المقابِل لِشواطئ مدينتيْ وَهْرَانَ والغَزَوَات الجزائرية…
كان الفتى حَمِّيدُو بن علي في عُمْر الزُّهور عندما بدأ يتعلم حِرفة الخياطة في محلِّ والدِه الذي لم يَشْعُرْ، وهو بداخِله، بالرّاحة والرِّضا عن الذات ولا اقتنع أن مهنة الوالد، بكل رتابتها وتواضعها، هي مهنته أيضًا التي يرغب في ممارستها طيلة حياته.
على الأقل، هذا ما نَقَلهُ عَمَّن عاصَروه من أهل مدينته الكاتبُ الفرنسي وأحدُ مسؤولي الأرشيف في مدينة الجزائر في بدايات الاحتلال ألبيرْ دُوفُولْكس (Albert Devoulx) (1826م-1876م) في كتابه Le Rais Hamidou, notice biographique sur le plus célèbre corsaire algérien du 13ème siècle de l’hégire d’après des documents authentiques et pour la plupart inédit (الرايس حَمِّيدو، سيرةُ أشهر قُرْصَان جزائري في القرن الـ 3 الهجري من خلال وثائق أصلية غالبيتها غير معروفة) الصادر سنة 1859م في مطبعة بساحة الشهداء الحالية (Place du gouvernement (ساحة الحكومة) سابقا) الواقعة بالقلب التاريخي للعاصمة الجزائرية.
الفتي أزْرَق العَيْنيْن الحالِم ابن مَرْيُومَة وعلِي الخَيّاط
كانت أحلامُ الفتى ذي العشر سنوات من العُمْر المولود على الأرجح في بدايات سنوات 1770م، الأزرق العينيْن وجميل الوجه والجسد والمائل إلى الشُّقرة، أكبر بكثير من المشروع الذي تمناه له والدُه. مثلما كانت طموحاتُه أوْسَع مِن أن يَتَّسِعَ لها ذلك المَحَلُّ العائلي القريب من بيته في “القصبة السفلى” بمدينة الجزائر والمحاذي لِكلٍّ مِن دار السَّركَاجِي (أيْ دار الخلّ) (بشارِع بُوتانْ Rue Boutin) وجامع كَتّْشَاوَة (أيْ جامع رَحْبَة المَاعِز) ودار الدَّايْ حَسَان بَاشَا الجميلة العتيقة التي هي اليوم مديرية الشؤون الدينية المقابلة لِدار عزيزة بنت البَايْ والمجاوِرة لـ “حَمَّام سِيدْنَا” الذي يُعَدُّ الأقدَمَ في المدينة.
كان حَمِّيدو مفتونًا بِقِصَصِ غزواتِ ريّاس البحر المجاهدين ومغامراتهم. وكان مسحورًا بمَشاهدِهم الحماسية وهُم يَعُودُون من المعارك في أعالي البِحار إلى “بهجة” سيدي الثعالبي عبد الرّحمن مُنتَصِرِين غانِمين مُحَاطِين بالمُتجَمْهِرِين حَوالِيهم من السُّكان المُعجَبين، نساءً ورجالاً وأطفالًا مثله، بِمَنْ فيهم البَاشا والعُلَمَاء والأعْيان، لِتحيّتهم وتهنئتهم بالهتافات والدّعاء والزّغاريد وهم صاعِدون مِن المرْسى مُختالِين عَبْرَ باب الجزيرة، أو باب الجهاد، ومعهم الأسْرى ومختلف الغنائم. وكان الموكبُ يتجه عادةً إلى سوق البَادِسْتَانْ، الواقع آنذاك بين الجامع الجديد، الحَنفي حينها، وشارع أوّل نوفمبر الحالي.
هناك، في تلك البقعة النابضة من المدينة، المُطِلّة على التَّرسَانَة وباب البَحر، أو باب السَّرْدِين (La pêcherie (السَّمَّاكَة) اليوم)، كان يَتِمُّ عَرْضُ الأسرى ومختلف الغنائم لِلبيع قبل مواصلةِ الطريقَ إلى قصر الجُنَيْنَة الشَّامِخ، أيْ “دار السُّلطان القْدِيمَة”، المُقابِل، على مَرْمَى حَجَر، للبادستان والجامع الجديد وجامع السَّيِّدَة العريق حيث يُستقبَل القادةُ ورِيَّاس البحر عادةً من طرف الباشا أو على الأقل من طرف كِبار المسؤولين في الدولة مِن مُساعدِي الدَّايْ كالخزْنَجِي، الرجل الثاني في البلاد، والآغَا والخَزْنَدَارْ…
في الحقيقة، لم يكن البَحر وأجواؤُه ومغامراتُه وأخبارُ رجَالِه غريبًا عن حَمِّيدُو وأهلِه بل كان جزءا لا يتجزأ من حياة الأُسْرة، ولو أن الناس، كُتَّابًا وعامَّة، رَكَّزوا، بالدرجة الأولى، منذ صدور كِتاب أَلْبِيرْ دُوفُولْكس سنة 1859م، على أجواء مَحَلِّ وَالِدِهِ الخيّاط ونَسَوْا منذ أجيال أن والدتَه هي “…مَرْيُومَة بنت محمَّد رئيس…” (أو “رَايَسْ” بِعَامِّية أهل البلد آنذاك وإلى اليوم)، حسب خليفة حَمَّاشْ الباحث الجزائري الممتاز بجامعة قسنطينة في أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه الصادرة سنة 2006 بعنوان “الأسْرة في مدينة الجزائر خلال العهد العثماني”، والتي استند في إعدادها إلى وثائق الأرشيف الجزائري العثماني بالمركز الوطني للأرشيف ببئر الخادم في العاصمة الجزائرية.
لهذا، لا يَحقُّ الاستمرارُ في إغفالِ أن جَدَّ حَمِّيدُو من جهة والدتِه مَرْيُومَة كان بَحَّارًا بِرتبَة “رايس” مِثلما وَرَدَ ذِكْرُهُ في عقدٍ من العقود المحفوظة في الأرشيف يعود إلى “…أواخر شوال 1231هـ/1816م…”، والذي نَعرِفُ بعضَ تفاصيله بفضل خليفة حَمَّاشْ. مِثلما نَعرِف أيضا، بفضل المصدر ذاته، أن الوالدةَ مَرْيُومَة بنت محمد رَايَسْ أقرَضَتْ بِمقتَضَى هذا العقد “…السيّد إبراهِيم التُّرْكِي الأُطْرَاقْ بن بَكِيرْ ما قَدْرُهُ 400 ريال….”.
ابن مَرْيُومَة يُودِّع الخِيَاطةَ ويَركُبُ البَحر
على كلٍّ، بعد فترةٍ من التفكير والتردد بين ما يريده الوالد وما يحلم به الابن، حَسَمَ الفتى حَمِّيدُو أمرَه. وقرَّرَ لِنفسه مصيرًا آخر، بعيدًا عن حرفة الخياطة، سوف يَجعله يعيش جُلَّ حياته، منذ الثانية عشرة أو الثالثة عشرة مِن العمر، في البَحر بيْن زُرْقَتيْ السَّماء والمياه المتلألئة العاكسة لِأشعّة الشمس وطيور النّورْس المُحَلِّقَة بينهما، يَشُق بِسفنه عُباب البحر ويتحدى الأمواج ذهابًا وإيابًا لِيعودَ في كل مرة بشوقٍ وحنين إلى مدينته ومسقط رأسه حامدًا شاكرًا كما يَعُود الأبطالُ، ويَرْسو مُطْمَئِنًّا ومُتَبَرِّكًا قبَالةَ ضريح الولي الصَّالح سيدي إبراهيم البحري السَّلاَمِي الشهيد في عملية تحرير المدينة من سطوة الإسبان في بداية القرن 16م. وهكذا، التحق المُراهِقُ حمِّيدو، الذي سيشتهر لاحقًا في الجزائر وفي كل العالم بـ “الرَّايَسْ حَمِّيدُو” حتى بلغتْ أصداءُ شهرتِه إلى ردهات الكونغرس الأمريكي والبيت الأبيض في العاصمة واشنطن، بِمراكب البحَّارة المجاهدين كبَحّارٍ مُتَمَرِّن قبل أن يرتقي إلى نوتِي (Matelot بالفرنسية)، ثم إلى قبْطَان فضابط وأحد كبار رجال البحر الجزائريين عبْر التاريخ برتبة قائد الأسطول البحري أو ما يُعادِلُ بمفاهيم اليوم رُتبةَ “الأميرال”، وهي، بالمناسبة، العبارةُ المُشتَقَّة، اخْتِزالاً، مِن اللغة العربية وتحديدًا مِن “أمِير البَحر”…
بين الأشْرعة الخافِقة والرياح العاتية وأمواج البحر المتلاطِمة، وخلال احتكاكه بالخصوم والأعداء وبِغيْرهم من الأوروبيين، في البَرِّ الجزائري كما في البَحرِ، سواء أكانوا مِن الأسرى أو من الأحرار الزملاء والأصدقاء، تَلَقَّى حمِّيدو تكوينَه الأساسي في علوم الإبحار، كَمَا “تعَلَّمَ عِدّة لغات” في الوقتِ ذاته حيث “كان يتحدثُ بطلاقةٍ الإنجليزية والإيطالية”، على الأقل، على حد تعبير المؤرخ الجزائري مَوْلَايْ بَلّْحَمِيسِي في الجزء الأول من كتابه Histoire de la marine algérienne (تاريخ البحرية الجزائرية) الصادر عن المكتبة الوطنية الجزائرية في سنة 1996م بالعاصمة الجزائر، مثلما كان يَعرِف بقدر أو بآخر، تُضيف مصادر أخرى، كُلاًّ من اللغةِ الإسبانية ونظيرتها التركية، فضلا عن العربية.
عندما اشتدَّ ساعِدُ حمِّيدو، وتأكّدتْ كفاءتُه، طَلَبَ بَايْ إقليم وهران، بعد تحرير المدينة من الإسبان سنة 1792م، خدماتِه ليُسنِدَ له مهام تأمين الساحل الشمالي الغربي من البلاد من المخاطر القادمة من إسبانيا والدول الأوروبية المجاورة، وكَلَّفّهُ بقيادة سفينته ثم أسطوله الإقليمي الصغير، يقول مولاي بلحميسي. ولم يندم الباي على قراره، لأن حميدو تمكن بجرأته وشجاعته وذكائه في إدارة المعركة وحركاته المحسوبة بدقة من إجبار سُفن تابعة لمملكة البندقية، الإيطالية حاليًا، على الفرار في معركةٍ غيرِ متكافئةِ القِوى عُدَّةً وعددًا بَدلاً مِن هروبه هو وسُفنه المتواضعة من المواجهة مثلما كان منطِقيًا مُتوَقَّعًا. وسرعان ما انتشر صدى هذا الإنجاز اللافت والمثير للإعجاب في الجزائر، وداخِلَ قصر الجُنَيْنَة بـ “المحروسة بالله” في تلك الفترة من حُكم الدّاي حَسَان (1791م – 1798م)، كما في الدول الأوروبية المُطِلة على البحر الأبيض المتوسط، وأصبحتْ هذه المعركة لِفترةٍ طويلة حديثَ العامّ والخاصّ…
"راية الفَرَس"...رايةُ حمِّيدو التي ارتعدتْ لها أوصال أعداء الجزائر في البِحار
بَعدَها، استقدَمَه الدَّاي حَسَان إلى مدينة الجزائر، لِيُبَاشِرَ حمِّيدو، بعد توليه قيادة سفينة الباشا ذاته المجهزة بـ 36 مدفعًا، عمليات بحرية أكثر أهمية وأكثر جرأة ضد الأعداء والتي تكللتْ بالنصر والاستيلاء على عشراتِ السُّفن الإسبانية والبرتغالية والمَالْطِيَّة والإيطالية، الجِنْوِيَّة والنَّابُولِيتَانِيَة بشكلٍ خاصّ، واليونانية التي، لِوحدها، بَلَغَ عددُ سُفنِها المستَولَى عليها مِن طرف الرّايس الشَّاب الذي كان لم يتجاوز العشرينيات من عمره، أكثر من 20 سفينة… وأصبَحتْ سفينة حمّيدو في هذه الفترة إيقونةً مِن إيقونات البحر الأبيض المتوسط، تُثير رؤيتُها الرُّعبَ لدى سفن الأعداء في البِحَار مثلما كان يُفزِعُها عَلَمُها الخاصّ بها “الذي يَحمل رَسْمَ الفَرَس”، حسب الحاج أحمد الشَّريف الزَّهَّار أحد أعيان مدينة الجزائر المعاصِرين لِحمِّيدو في مذكراته “مذكرات الحاج أحمد الشريف الزّهَّار” التي حَقَّقَهَا المؤرِّخُ والمجاهِد والوزير الأسبق المرحوم أحمد توفيق المدني، الأندلسي/الموريسكي الأصول.
وإذا كان لابد من تِعْدَادِ بعض إنجازاته، فإن الرَّايس حمِّيدو بن علي ومَرْيُومَة، الذي يقول عنه أحدُ أقربائه المعاصِرين في مدينة الجزائر إنه يَنحَدر من أصل أندلسي هو الآخر، قد استولى خلال معاركه البحرية على سفينة أمريكية في سنة 1793م، وعلى أخرى بْرُوسِيَة (ألمانية سابقًا) بعد عامٍ ، كما عاد خلال الفترة ذاتِها تقريبًا إلى مرسى “المحروسة بالله” تحت الهتافات والزّغاريد والتَّكْبِيرَاتِ بِسُفنٍ إيطالية، نابُولِيتَانِيَة وجِنْوِيَّة، وأخرى يونانية…
الرايس حمِّيدو...الأندلسي يواجه أعداء أجداده ويَستولي على "البُرْدْقِيزَة"
غير أن أضخم غنائمه وأهمَّها حَجمًا وعُدَّة وجَمالاً وقدراتٍ حربيةً كانت السفينة العسكرية البرتغالية الفرقاطة الشهيرة أوروبيًا بـ Le Cygne (البَجْعَة)، وفي مدينة الجزائر “المحروسة بالله” بـ “البُرْتُغِيزَة” (Portuguesa) (أيْ البرتغالية)، والتي بعد استيلائه عليها في يوم 27 مايو 1802م، احتفظ بها حَمِّيدو لنفسه قائدًا لها في غزواته البحرية، وذلك بِموافقة الدَّاي مصطفى باشا (1798م-1805م) خَلِيفَة خالِه المتوفي، الدَّاي السابِق حَسَان بَاشَا، على رأس الدولة الجزائرية. وقد تم إدماج “البُرْتُغِيزَة”، أو “البُرْدْقِيزَة” أحيانًا أخرى كما يقول الحاج أحمد الشريف الزَّهَّار في مذكراته، ذات الـ 44 مدفعًا والمجهزَّة بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا العسكرية آنذاك في البرتغال، في الأسطول البحري الجزائري لِتصبح من أبرز قِطَعه وأعزّ سُفنه لدى الرايس حميدو وأقربَها إلى قلبِه التي لم يفارقْها على مدى سنوات طويلة. وعاشتْ “البُرْدْقِيزَة”، بعد مشوارٍ طويل في أحضان الأسطول البحري الجزائري ورجاله المجاهدين، عامًا فقط بعد استشهاد حميدو قبل احتراقها في قصفِ القوات البريطانية بقيادة اللورد إِيكْسْمُوْثُ (Exmouth) مدينةَ الجزائر سنة 1816م قصفًا عنيفًا يُقال إنه خرَّب قرابةَ ثلثي (3/2) المدينة.
وكان نجاحُ حمِّيدو، بإمكانياتٍ متواضعة، من التغلب على البرتغاليين والسيطرة على سفينتهم هذه وعلى متنها كميات معتبَرة من العتاد الحربي والذخيرة و282 شخصًا، وَجَدُوا أنفسَهم أسْرَى في مدينة الجزائر في انتظار الفِدْيَة أو المبادَلة مع الأَسْرَى الجزائريين لدى البُرتغال، حيث أُرسِل أحدُهم لخدمة ضريح سيدي عبد الرحمن الثعالبي حسب ألبير دوفولكس، كان هذا النجاح إنجازًا غيرَ مُتاحٍ لِكُلِّ مَن هَبَّ ودَبَّ من رِجال البَحر وقادتِه في الجزائر والعالم، بل كان إنجازًا باهرًا زادَ مِن شُهرة وهَيْبَة حمِّيدو بن علي والقوة البحرية الجزائرية إقليميًا ودوليًا.
"البهجة" تحتفل بـ "وجْه الخيْر" وبمجاهديها ببهجة
كانت عودةُ حمِّيدو إلى المرْسَى دائمًا عُرْسًا شعبيًا في مدينة الجزائر باعتباره عند أهلها “وَجْهْ الخَيْرْ” كما يقول المَثَل الشعبي المحلي. وكان الرَّايس، كُلّما أقفل عائدا من البحر وأنزل أشرعتَه وأوقف سُفنه في المرسى العتيق، المحمي من غضب الطبيعة برصيف خير الدين ومن اعتداءات الأعداء بمدافع الأبراج والطُبّأنات (بطاريات المدافع) التي كانت على مدى 3 قرون في حالة استنفار دائم مِن باب الجهاد وباب البحر وبرج الزُّوبْيَة حتى برج الفنار، يَعرف دائمًا أن هذه العودة إشارة انطلاق تلقائية لِعُرْسٍ وعِيدٍ وبهجة كبيرة في كل أرجاء “البهجة”…
لكن قدومه قبالة مياه مدينة الجزائر في هذه المرة يَجُرُّ الفرقاطة البرتغالية الـ “بُرْتُغِيزَة” مبشِّرًا “المحروسة بالله” بطلقات مدفعية من سفينته من عرض البحر وقبْلَها مِن سفينة مرافِقِه الرَّايِس أحمد الإزْمِيرْلِي، الذي كان يقود السفينة الأمريكية الغنيمة التي اشتهرتْ باسم “المَرِيكَانَا”، كان هذا حدثا استثنائيا ومفاجأةً كبيرةً ويومًا بهيجًا لم يكن ككل الأيام يقول الحاج أحمد الشريف الزّهَّار في مذكراته.
حسب شهادة هذا الأخير، في هذا اليوم المشهود الذي صَنعه الرّايس حمِّيدو، “…استبْشَر جميع المسلمين وذَهَبَ جميع الناس لملاقاتِهِ بحيث لم يبق في البلد إلا العاجز، ودخل في شهرة عظيمة كأنه يوم عيد، وتعجَّب الناسُ مِن صُنعه لأنها فركاطة أكبر من التي كان فيها”. ويضيف الشريف الزّهَّار، وهو من أحفاد سيدي مْحمَّد الشّريف القرطبي الذي ما زال ضريحُه والجامع الذي يَحمِل اسمَه إلى اليوم موجوديْن بالـ “قصبة العليا” بمحاذاة حَوْمَةِ الباب الجديد وبئر الجَبَّاحْ، في وصفه مشاعرَ الناس والأجواء في “المحروسة” في هذه المناسبة السعيدة أن الجميع “..تحققوا أنه (حميدو Ndlr) لا نظير له في إقدامه وشجاعته، واهتزَّ له الأمير وأهل دولته” وهم يشاهدونه متقدمًا نحو البادستان برفقة رجاله قادمًا من المَرْسَى بعد نزوله من السفينة وانتهائه من الإجراءات التقنية والإدارية حيث “طَلَعَ في هيأة حَسَنة ومشهَد عظيم”، يواصِل الزّهار، “فلمّا وَصَلَ عند الأمير وقَبّل يَدَه، دعَا له (هذا الأخير Ndlr) وخَلَع عليه خِلْعَة سُنِّيَة، ثم خرَج لِداره…”.
عن هذا الحدث الكبير آنذاك بـ “المحروسة”، قال، مِن جهته، الفرنسي ألبيرْ دُوفُولْكس المطَّلع على سِجّل الدولة الجزائرية في العهد العثماني الخاص بالغنائم والذي أكَّد أنه مصدرُ “أكبر جزءٍ من المعلومات… (بِحَوْزَتِهِ Ndlr) عن الرايس حميدو”، ونقلاً عن شهود عيان تَحَدَّثَ إليهم أيضًا بعد الاحتلال، إن البُشرى التي أتى بها الرَّايس أحمَد الإزْمِيرْلِي بطلقاته المدفعية سَبقتْ بقليل وصولَ الرايس حميدو وطلقات مدفعيته وإن ابن مَرْيُومَة وعلي الخيّاط “عندما وصل بدوره إلى مدينة الجزائر حَظِيَ بِكُل ِّالتَّشريفات واستُقبِل بالهتافات (…) وبلغ الحماس (حينها Ndlr) ذروتَه في مدينة الجزائر الطيِّبة المحروسة من قِبل الرفيق الأعلى…”. ويضيف الكاتب الفرنسي بأن “مصطفى باشا استقبل المنتصِرَ استقبالاً رسميًا، وأثنى عليه أمام الناس، وأهداه ثوبًا ويَطْغَانَ شَرفِيًّا” وهو سِلاح أقرب إلى الخنجر شكلاً وأكبر منه حجمًا.
بعد كل هذه النجاحات والأمجاد، وبسبب بعض الأخطاء والنكسات والوشايات، وجد الرايس حميدو نفسَه في أوقات لاحقة، سنة 1808م، وفي ظروف غامضة مَنفيًا لِنحو عام في مدينة بيروت بِلبنان. ولا نَعلم كيف قضاها وأين بالذات ومع مَن وما نسجَه خلال محنته هذه من صداقات، لأن البحث التاريخي في الجزائر لم يهتم بعد بهذا الفصل الضبابي والصعب من حياة حميدو بن علي. لكننا نعرف أن، بعد عودته من بيروت بدعوة من الدَّاي الجديد الحاج علي الذي أعاد له الاعتبار، تولَّى حَمِّيدُو مهمَّةَ إعادة تنظيم الأسطول الجزائري.
في هذه المرحلة المتقدِّمة من مشواره البحري، أصبح ابن علي الخياط ومَرْيُومَة بنت الرّايس محمد في قمة نضجه بإنجازاته العسكرية وأسَدًا من أسُود البحر الأبيض المتوسط، وما بعد البحر المتوسط، وأحد كبار رُموزِه في تلك الحقبة من التاريخ وعلى مدى سنوات عديدة إلى أن شاءت الصُّدَف أن يتغيَّر كلُّ شيء في لحظة خاطفة…
الرّايس حمِّيدُو يقرر قتال الأمريكيين حتى الاستشهاد..."النِّيفْ والخْسَارَة"...
في يوم17 يونيو/حزيران 1815م، في عهد الدَّايْ عُمَر بَاشَا، ولأول مرة، عادتْ سُفن الرّايس حمِّيدو بِدونه…حَمِّيدُو مات شهيدًا…ولم يَعد موجودًا في عالَمنا بعد ذلك اليوم… وشَكَّلَتْ تلك الفاجعة صَدمَةً شعبيةً ورسميةً كبيرة في مدينة الجزائر وما جاورها ترددت أصداؤها في كامل البلاد والمنطقة المغاربية والمتوسطية. وحتى تلك السُّفن التي رَجَعَتْ إلى الجزائر لم تَأتِ وِفْقَ الطُّقوس المعتادة ولا بالطلقات المدفعية التقليدية تَحِيَّةً للأولياء والصالحين في أضرحتهم كسيدي عبد الرحمن الثعالبي، وإنما دَخَلَتْ مياهَ خليج مدينة الجزائر صامتةً حزينةً ومُهَانَة، وفوق ذلك أسيرة مُحاطة بالأسطول الحربي الأمريكي الذي انتصر عليها وعلى قائدها حَمِّيدُو بن علي في معركةٍ شرسةٍ غير متكافئة بين مياه جبل طارق وسواحل ألمرية…وقد اعترف الأمريكيون والأوروبيون ومن تابع وقائع المعركة البحرية بشهامة المقاتلين الجزائريين وشجاعتهم وجرأتهم في تلك المواجهة الصعبة وصمودهم لِساعاتٍ طويلة، فيما لم تكن قدراتهم تسمح لهم بأكثر من الاستسلام الفوري…
على كلٍّ، كانت هذه المعركة آخر معركة للرايس حميدو “آخر عمالقة البحرية الجزائرية”، على حد تعبير مولاي بلحميسي. وفي الحقيقة، كانت هذه البحرية التي سادت لنحو 3 قرون في البحار والمحيطات، تحتضر في صمت منذ عقود لِتراجع قوة الدولة في مختلف المجالات، رغم استمرار توفرها آنذاك، وفي عهد الداي مصطفى باشا تحديدًا، على نحو 500 من رياس البحر حسب تأكيدات الحاج أحمد الشريف الزهار، من بينهم قادة كبار على غرار كل من الرايس الحاج يعقوب، وأحمد رايس، والرايس قارَه دِنِيزْلِي، والرَّايس نُعمان، والرايس الحاج سليمان، ومصطفى رايس، والرايس حَسَان، والرايس بن زَرْمَانْ، والرايس حَمْدَانْ، والرايس عبَّاس، والرايس علي تَتَارْ، وأيضًا الرايس أحمد الإزْمِيرْلِي، والرايس عَلْوَاشْ، والرايس تْشَلَبِي، وكذلك الرايس علي غَرْنَاوُطْ، والرايس الإسْكَنْدَرِينِي، والرايس محمد وَعْلي (وهي الصيغة التي كان يَعتَمِدُها أهلُ “المحروسة” لِاسْمِ: محمد عَلي)، فضلاً عن الجيل الأكبر سِنًّا مِن حميدو على غرار الرّايس الحاج مهدي، والرايس بن طَابَاقْ، والرايس الحاج محمد الإسْلاَمِي (وكان يُلقب بالإسلامي عادةً اليهودي الذي اعتنق الإسلام)…
لكن ما الذي حدث بالضبط حتى تتكبد الجزائر هذه الضربة المؤلمة وكل هذه الخسارة المفاجئة…؟
شاهِدُ العصْر الحاج الشريف الزّهار، الذي عَمَّرَ حتى السَّنوات الأولى للاحتلال الفرنسي للبلاد، يُجيب في مذكراته قائلا: “…التقى (حميدو Ndlr) مع الأمريكان على قَابُو كَاطَة (أيْ (Capo de Gata)، وهي عشرة مراكب، فأحاطتْ به، وابتدأ القتال…”. وبعدَها بقليل، “دَخلتْ عليه كُورَة (أيْ قذيفة) وهو واقف على كرسيِّه، فقسمته إلى نصفيْن، ومات رحمه الله في أوَّل القتال”. كان حمِّيدو يَعرِف مسبقًا بخبرته الطويلة أن المعركة غير متكافئة وحظوظ الانتصار فيها تكاد تكون منعدمة. لكن، عندما تكونُ جزائريًا شهمًا وأنوفًا وتؤمنُ بـ “النِّيفْ والخْسَارَة”، لا تقبِل مصاحَبة الجُبن ولا يمكنك أن تتراجع وتهرب، ومصيرُك المحتوم في هذه الحالة هو المواجهة مهما كان الثمن والموت بشرف. وهذا بالضبط، حسب العديد من الروايات التاريخية، ما حدث لِحَمِّيدُو ورجاله في ذلك اليوم من يونيو/حزيران 1815م أمام الأسطول الأمريكي الذي ظهر لهم فجأة في جبل طارق ولم يتعرَّفوا على هويته في الوقت المناسب لاتخاذ القرارات المناسبة…
على كل، رجال حميدو لم يجبنوا ولم يتراجعوا باستشهاد قائدهم، الذي، يقول الشريف الزهار، “تقدَّم إليه خليفته أحمد وَلْدْ عمر، ويسمونه البَاشْ رَايَسْ، وحَمَلَهُ وألقى به في البحر (وفقًا لوصيته Ndlr)، ووقف في مكانه للقتال فقاتلهم خمسَ ساعات، واستشهد الكثير من المسلمين وتكسرتْ الفركاطة ودخل الماء بِخَزْنَة البارود، وكانت كثرةُ المجاهدين الباقين جرحى، فمنهم من قُطِعَتْ له يَد، ومنهم من قُطِعَتْ يَداه معًا، ومنهم مَن فَقَدَ رِجْلَيْه”. وهكذا، يواصل الزهار، “قَلَّ بذلك الضَّرْبُ عن المسلمين (أي من طرفهم)، فهجم المَرِيكَانْ عليهم وأخذوهم. فلما صعد النصارى للفركاطة سألوا حالاً عن القبطان حميدو، فأخبروهم بموته فحصل لهم غيظٌ كبير، وقد حكى لنا مَن شاهد هذا القتال أن النصارى عندما سمعوا بموت حمِّيدو صاروا يضرِبون الأرضَ بأرجلهم غيظًا منهم على موتِه….”. ربما تمنوا أن يلتقوا هذا الرجل الأسطورة والتعرف عليه…
بعدها جاء أسطول الأمريكان المنتصِر بقيادة الأميرال “ديكاتور” إلى مياه خليج مدينة الجزائر وتفاوضوا مع الداي عمر باشا “المشؤوم” الذي كانت سنوات حُكمه على قِلَّتها كلها مصائب، كانتشار مرض الطاعون، وهزائم، كمقتل حميدو ثم بعد أشهر القصف البريطاني المدمِّر لمدينة الجزائر بقيادة اللورد إيكسموث…، فضلا عن المشاكل السياسية والاجتماعية الداخلية للبلاد.
في البداية، رفض الداي عمر باشا التفاوض وتوقيع معاهدة صلح مع الأمريكيين بشروطهم من شدة الغضب بعد أن أخبروه باستشهاد حميدو. “وقال لا نصالحهم أبدا”، حسب الشريف الزهار… لكنه اضطر لغياب جلّ السفن الجزائرية في مهام بالبحار إلى قبول ما لا يُقبل مقابل الإفراج عن مئات الأسرى والجرحى، وتحَرَّرَ الأمريكيون منذئذ من الخضوع للقواعد البحرية التي كانت الجزائر تفرضها على الأمم الغربية في وسط وغرب البحر الأبيض المتوسط….
لقد كانت تلك اللحظات بداية نهاية حقبة من التاريخ في البحر الأبيض المتوسط تأكدت بسقوط الجزائر بيد المحتلين الفرنسيين بعد خمسة عشر عامًا في سنة 1830م…
سفينة حميدو التي لَحِقَتْ بها أضرار كبيرة خلال المعركة، والتي ذُكِرتْ في مصادر غربية باسم “المَسْعُودَة”، أعادها الأمريكيون، بمقتضى الاتفاق مع عمر باشا، إلى الجزائر بواسطة الإسبان بعد أسابيع من الصلح بعد سحبها خلال المعركة وإرسالِها إلى قرطاجنة بإسبانيا حيث تمَّ إصلاحُها. أما الأغراض الشخصية للرّايس الشهيد ورايته فقد تم الاحتفاظُ بها قبل إيداعها لاحقا في متحف الكونغرس الأمريكي بواشنطن حيث ما زالت موجودة تنتظر التحرير إلى اليوم…
وِشايَة فكارِثة...فإقالَة...بعد فوات الأوان...
وفي الأخير، ما لا يُذكر عادةً إلا نادرا جدا، هو أن حمِّيدو، الذي كان رَكِبَ البحرَ للغزو وعَلِمَ أن سفنًا أمريكية قادمةٌ من جهة جبل طارق لِطلَبِ الصُّلح مع الجزائر، عاد لِتوِّهِ إلى مَرسى “المحروسة” لِيُخبِرَ الدَّاي بالأمر. لكن وَكيل الحَرج، وزير البحرية، رأى في هذه العودة، حسبما قالَه للبَاشا في إساءة منه للرايس حميدو، يقول الشريف الزهار، عصيانًا من طرف حَمِّيدو للأوامر وتصرفًا على هوَاه.
لذلك، بمجرد معرفة هذا الرايس بهذه الوشاية، طلب من الباشا الإذن بالخروج لإبعاد الشبهات، فأتاه الرد بالإيجاب، وركب البحر لِينتهي إلى مقابلة السفن الأمريكية والاشتباك معها، رغم معرفته بعدم تكافؤ القوة من حيث عدد السفن ومدفعيتها والرجال متسلحا خلال ذلك بشجاعته وإيمانه هو ورجاله المجاهدين…وكان حينها ما كان…
بعد استشهاده الذي صدم الباشا ذاتُه، يقول الزهار، “بقي الأميرُ مغتاظا على وكيل الحرج الذي تسبب بكلامه في سفر حميدو حتى لقي حتفَه، فأمر بعزله عن سُخط، وذهب لباب الجِهاد بنفسه واجتمع مع قَبَاطِين البَحر” للتشاور واتخاذ القرارات وتكريم الرياس والمجاهدين…
استشهد حميدو بن علي ومَرْيُومَة، إذن، ولم يترك له لا قبرًا ولا ذرّية من زوجته التي كانت تحمل نفس اسم والدته. وتؤكد ذلك الباحثة اللامعة المرحومة عائشة غطاس بقولها في أطروحتها لنيل الدكتوراه في التاريخ بجامعة الجزائر، الصادرة في 2001م-2002م، تحت عنوان “الحِرَف والحِرَفيون في مدينة الجزائر 1700م-1830م” استنادا إلى وثائق الأرشيف بقولها لقد “…توفي الرايس حمّيدو عن زوجه مَرْيُومَة بنت علي، ولم يُخلِّفْ عقبًا…”.
كل ما بقي من حمَّيدو اليوم، ذلك الفتى الحالِم والطموح الذي قال عنه ألْبِيرْ دُوفُولْكس قبل أكثر من 170 عامًا إنه “لم يكن تركيا ولا كولوغيا” و”كان ينتمي إلى تلك الطبقة من العَرَب المستقرة في المُدن منذ فترة طويلة نسبيًا” حيث “يسمونهم الأهالي الحَضَر” والفرنسيون “المُورْ” (Maure)، هو ضيعتُه المعروفةُ بـ “جْنَانْ الرَّايَسْ حَمِّيدُو” التي تم إدماجُها في مستشفى في فحص الأبيار في مرتفعات مدينة الجزائر وترميمها قبل بضع سنوات.
أما مصادر أسرته فتقول إن حميدو ينحدر من أصل أندلسي شريف ,إن والده، حسب وثيقة من الأرشيف متوفرة عند الأسرة، كان حرارا وليس خياطا، مع العلم أن الأندلسيين كانوا في الجزائر شبه محتكرين لمهنة الحرارة على مدى أجيال…
رحم الله الرايس حميدو، الرّجل الطيِّب والكريم والمحبوب بين أهله وشعبه بشهادة أهل “المحروسة” الذين عاصروه وكانوا يصفونه باعتزاز بـ “وْلِيدْ الجَزَايَرْ” (« enfant d’Alger ») على حد تعبيرهم عند حديثهم عنه لألبير دوفولكس…
فوزي سعد الله
16.06.2022م
المقال صدر كمساهمة بمناسبة الذكري في صحيفة “الشعب” الجزائرية.