عبد القادر بوشريف _ كاتب جزائري
ليست كل النصوص الادبية تولد حية، فهنالك من تولد ميتة تحمل بذور فناءها قبل ميلادها، فتجد كاتب العمل الروائي حائرا ومتسائلا، كيف لنصه الادبي لم يرى النور ولم يصل الى قلوب القراء، ولا نسمع له نبضا ولا حياة.
غير ان هذا الكاتب لم يسأل نفسه يوما، لم يقف امام المرآة ويطيل النظر في وجهه، حتى بدرك انه لم يولد كاتبا، وان كل ما يحاول عبثا كتابته لا يعدو ان يكون مجرد تفريغ بسيكولوجي وفي اسوء الاحوال كتابة مرضية تنشد الشفاء، كتابة تضج بالصراخ الذاتي، حروف تأكل بعضها البعض، نار تلتهم كلمات، كتابة تشبه جحيم الذات، تأتي عبثية، عدمية، تدعو للفناء، ويتفنن فيها الكاتب في التنكيل بالشخوص، يقتل ابطاله منذ البداية، يقتلهم عاطفيا، وفكريا، قبل ان يحهز عليهم جسديا، ويصبح ذلك النص الادبي مجرد مقبرة تؤصل للعدم والفناء، ولا ادري كم مقبرة انشأها فكر عدمي، عبثي، فالمقابر الادبية تنتشر مثل الفطريات لي المكتبات و المعارض وترى البعض منها محمولة في الباصات وفي القطارات، واحيانا تجدها تستعرض خرابها في المقاهي وعلى رمال الشواطئ تحملها ايادي مرتعشة و تقرؤها عيون مملوءة بالخوف والرعب و النهايات.
وهنالك نصوص تولد بعد عملية اجهاض قاسية، كئيبة، تثير في النفس حالة من التقزز، تنبعثر منها روائح جثث الكلمات والحروف وهي مبعثرة، مجزأة، مرمية في مزابل الكتابة، تعجز عن مرور امامها، فما بالك التوقف عندها، تفر وتسعى للهروب بعيدا من هذا العالم الجنائزي ومن هذه الاكوام والجثث.
لم يتسائل هؤلاء ” العجزة ” من كتابنا، لماذا بعض النصوص تبقى حية لا تموت.!؟ ، رغم ان مر عن ميلادها عديد القرون، منها من يعود لمئات السنين، ورغم ذلك لا تزال تنضج بالحياة ولم تنقرض، في وقت يسعى العجرة من حيث يبتغون ولا يشعرون الى التأريخ عمدا لانقراض ” النص الادبي ” و وضعه في مكتبات ما بين الرفوف او عبر معارض تشبه المتاحف تعرض هياكل كتابية، كتابات محنطة
قبل ايام وقعت بين يدي رواية ” حقول الزعفران ” للروائية الاماراتية مهرة بنت احمد، كانت بعض النصوص الادبية تنتظر دورها في طابور القراءة الطويل، قرأت السطور الاولى الى ان وجدت نفسي منغمسا كليا في قراءتها، لا ادري اي يد خطفتني، او اي ريح دفعتني، لاجد نفسي مبحرا في عالم ادبي، عرفت هذه الكاتبة كيف تؤسس لفضاءاتها وهي تحفر في الذاكرة تارة، واحيانا اخرى تترك ” الجمل بما حمل ” لابطال عملها الروائي وهم ينسجون حيوات اخرى، جميلة، مفعمة بالحياة .
كانت الجمل و الكلمات تنمو في ” حقول الزعفران “، لا تنتظر الا يدا حانية تقطف نبتة الزعفران قبل انبلاج الصبح واشراقة الشمس، كل شيء في ذلك النص الادبي كان يسعى للترابط في نسق منسجم لا تستطع لا الحرب ولا السلم لا البرد ولا الدفئ، لا البعد ولا القرب ان يدفن ذلك السلام او يطفئ جذوة الحياة في مسارات تعتقد منذ الوهلة الاولى انها ستنتهي نهايات كلاسيكية مملة، فإذ بها تنبعث من جديد وتنتفتح على خيار” الحياة ” ولا شيء غير الحياة.
اعترف انني لست قارئا شغوفا بالادب الخليجي، لكن ما استعرضته هذه الكاتبة، جعلني اغوص اكثر في هذا النص الادبي ” حقول الزعفران “، نص يؤثث للحياة بعيدا عن اي نظرة عدمية، ينبعث منه المعنى من لغة بسيطة، مشوقة لا تتعالى على افق المعنى، وتجعلك من حيث تريد تزداد يقينا .. ان هنالك نصوص تولد حية في ازمنة الادب المحنط.
