مجيد سجال – كاتب جزائري
برز إلى الساحة الاقتصادية مؤخرا عديد المشعوذين الشعبويبن الذين يتاجرون بآلام الناس و آمالهم ، فيرسمون لهم الأحلام الوردية و يديرولهم جنة في طاجين مثلما نقول في العبارة الشعبية .
فتجرأ الكثيرون على علم الاقتصاد و الخوض فيه مثلما يتجرأ العامة على الفتوى الدينية ، و راحوا يرسمون الخطط الاقتصادية و التنموية ، يشقون الطرق ، و يبنون الجسور ، و يشيدون المصانع و يصدرون لأوروبا و يرفعون الدخل القومي فقط من خلال أحرف يكتبونها أو ملصقات يصممونها أو فيديوهات يركبونها لزيادة عدد المتابعين تارة ، أو عن حسن نية و عشق لهذا البلد في أحيان كثيرة حتى لا نبخس الناس حقوقهم .
لكن المتتبع و الذي يمتلك دراية حصيفة بعلم الإقتصاد يدرك جيدا ثقافة تحليل التكاليف ، و أن لكل قرار تكلفة ، و لكل سلعة تكلفة ، و لكل سياسة عامة تكلفة ، منها ما هو مادي يحتاج تعبئة للموارد ، و منها ما هو سياسي أو اجتماعي أو سلوكي أو نفسي و هلم جرا .
لهذا سأضرب لكم مثالا بسيطا ، فالعالم يعاني من الاحتباس الحراري و قلة التساقط و ظاهرة القحولة ، و ما ينجر عنها من انحسار لسلاسل توزيع الغذاء و ارتفاع تكاليفه استثمارا أو استيرادا . و قد يلجأ المتفيقهون لحل يبدوا لهم ثوريا فيقولون لماذا لا نصنع الماء و نقوم بتركيب جزيء الماء من ذرتي هيدروجين و ذرة من الأكسجين .
قد يصفق الناس و يهللون لهذه الفكرة العظيمة التي يمكن تطبيقها نظريا و فيزيائيا .
لكن نحن في علم الاقتصاد أول سؤال نطرحه ، هو كم سيكلفنا إنتاج لتر واحد من الماء أو ڨالون واحد ، و كيف يمكننا أن نحشد الموارد اللازمة لتغطية هذه التكاليف المادية ؟ و ما هي التكاليف غير المادية كالموارد البشرية و التكنولوجيا المعرفية و التكاليف الاجتماعية و السياسية لهذا القرار ؟ أي ما هي المغانم و المغارم ؟
ستجدون أن العملية مكلفة جدااااا و إلا لما أغفلها الأميريكون و الصينيون مثلا ، و لما قصر الخليجيون في تمويلها لحاجتهم للمياه .
نفس الأمر ينطبق على كل القرارات و السياسات العامة و المشاريع ، قبل أن نخوض فيها علينا أن ندرك جيدا المقومات المالية للجزائر ، ثم ندرس جيدا التكاليف ، و كيفية حشد الموارد لها من سياسة جبائية و مالية ، ثم نقوم بتحليل التكلفة الفعالية أي ما مدى تحقيق النتائج في ظل تكاليف معينة ، التكلفة الكفاءة أي ما مدى قوة المخرجات مقارنة بالمدخلات ، التكلفة الجودة أي ما مدى جودة تلك المخرجات ، التكلفة المنفعة أي ما هي المنافع التي حققناها من تلك السياسة أو القرار أو المشروع ، و الأهم من هذا كله المقارنة بين تكلفة الإصلاح و تكلفة عدم الإصلاح . فمثلا إذا تكلمنا عن إصلاح المنظومة الصحية فإن العملية مكلفة ماديا ، لكن تكلفة عدم أصلاح المنظومة الصحية ستكون مادية و بشرية و اجتماعية و حتى سياسية و هنا تدخل التفاصيل الدقيقة .
أيها الأحبة ، كلنا نحلم بجزائر أجمل و أرقى من أوروبا و الخليج و أميركا و سنغافورة . لكن علينا أن نكون عقلانيين في الطرح ، الإصلاح في الجزائر يحتاج قرارات ثورية و جادة و مؤلمة أحيانا ، و يحتاج تكاليف و موارد كبيرة من الجباية البترولية و الجباية العادية .
فهل السياسيون في بلدي مستعدون لدفع التكاليف السياسية لقراراتهم الاقتصادية ؟ و هل يمتكلون الرؤية اللازمة لحشد الموارد المالية اللازمة قصد تطبيق نموذج تنموي واعد ؟
هل يمكن تطبيق اصلاحات عميقة و سريعة بانتاج نفطي لا يتجاوز المليون برميل يوميا ؟ و باستهلاك محلي متزايد و ارتفاع ديموغرافي مطرد ؟ و سياسة جبائية عقيمة عن حشد الموارد ؟ و مواطن يفضل العمل الحكومي على المقاولاتية ؟
لهذا أحاول في كتاباتي أن أكون موضوعيا قدر الإمكان .
لا يمكن أن نصبح بلدا فلاحيا دون مياه و دون تحكم في تكاليف الطاقة اللازمة لاستخراج المياه الجوفية غير المتجددة .
و لا يمكن أن نصبح بلدا استثماريا بأسعار غير حقيقية و مبنية على الدعم الشامل غير المستهدف .
و لا يمكن أن نصبح بلدا سياحيا دون بنية تحتية .
و لا يمكن أن نبني أكثر من 1500 بلدية بنفس القدر من التنمية في آن واحد ، و البلدية نفسها عاجزة بسبب القوانين على خلق الثروة و الاعتماد على مواردها بدلا من الاعتماد على الخزينة المركزية .
و لأكون صريحا معكم أكثر ، لا يمكن بناء دولة اقتصادية دون مصارحة سياسية و اقتصادية شاملة . .
في الأخير باش تشري كبش العيد أكيد راك تخمم من الآن في التكلفة و كيف تحشد الموارد الشخصية لرمضان المقبل و عيد الفطر بعد صيف و دخول مدرسي مرهق اقتصاديا .
نفس التخمام لازم تستعملوا كي تقول لازم نديرو كذا و كذا في الجزائر .
سيفهم ما أقول من مارس مهام محاسبية في الإدارة العمومية أو الخاصة ، فهل يمكن أن تصنع شيئا في مؤسستك دون موارد و محاسبة التكاليف ؟