جلال حيدر _ كاتب جزائري
في لحظة وانا اكتب الخميس الشاحب قبل نحو سنتين، وصلت الى جزء ” شقائق النعمان”، كنت اروي تفاصيل العيش في ” محتشد “، انغمست بشكل كلي داخل تلك المرحلة، بعد ان استطعت جمع شهادات كثيرة من شهود عايشوا المرحلة كاطفال، كانت الساعة الثالثة صباحا، كنت عشت ايضا ليالي داخل المحشد، ليالي عذاب، اركض في المطر لانقذ كوخ احدهم، او في الغالب احداهن، لان معظم الرجال ماتوا، او انهم مقاومون في الجبل، فتحت النافذة في ذلك المشهد، كان الشتاء قاس جدا، دائما، في تلك المرحلة، او اليوم، هذه المنطقة لابد انها انتزعت من سيبيريا.. كتبت ذلك المشهد وانا ارتجف، وانا أشعر ان البرد يقضي علي نهائيا، لكن لم اتوقف، واصلت الكتابة فقط.
عندما انتهيت من المشهد، ومات الاسير بعد ان تحدث عن رغبته في رؤية امه التي تركها وحيدة. مات بجانب المحشد، و اعلن حظر التجوال، وبقيت جثته ملقاة امام الاطفال، تغسلها الامطار، الى ان غطتها السيول..
عندما انتهيت اغلقت النافذة، وبكيت بحرقة، بكيت بحرقة من يشاهد الجثة معهم، بحرقة من قلبه مفجوع مما حدث، ومما قد تحدثه تلك السيول التي دخلت معظم الاكواخ، وبللت الافرشة والملابس والحطب.. كانت أمي العجوز معتادة على النهوض باكرا لتصلي الفجر، و كانت تقول دائما عندما تلقي نظرة على غرفتي: ايها المسيحي متى تصلي انت؟
أضحك واقول: عندما يشيدون كنيسة هنا..
وانتظر قهوتها، كانت تحب ان تراني اكتب، الان اصبحت تسالني عن كتاباتي، بل تحب ان تسمع قصصي، كما كنت احب سماع قصصها وانا صبي.. احب أمي كثيرا واتمنى ان يغفر لي الرب تلك الليلة عندما شاهدتني لاول مرة ابكي.. يمة مابك ؟ انت لا تحتاج الى شيء؟ لديك كل شيء!! مالذي ازعجك.. هل انت عاشق يا يمة.. هل تذكرت حبيبتك الميتة ؟
لقد ماتت يمة.. الدموع لن تعيدها ابدا !! حاولت فيما بعد ان افسر لها ان تلك الدموع من اجل احداث الرواية لكنها لم تفهم ضلت تقول لاخي في الهاتف انني لست على ما يرام.. تلك الأحداث عذبتني فعلا وتخلصت منها بصعوبة حتى سألت صديق ممثل عن كيفية تجاوز الشخصيات التي يؤديها على المسرح وفي السينما.. من أصعب الاشياء ان تتقمص..لكن من أجمل الاشياء انك تتعلم من عمل لآخر..
