الجمعة , 2 يونيو 2023

الناشرون بوصفهم صناع ثقافة

عمير بوداود – كاتب جزائري


جرت العادة الاحتفاء بالكتّاب والشعراء والروائيين، لكننا نغفل، عن قصد أو غير قصد، في غمرة هذا الاحتفاء البهيج، الانتباه إلى إهمالنا أهم عنصر في معادلة الكتابة والتأليف، اسمه: الناشر، والذي لولاه ما وُجد الكتاب ولا المؤلف.


مجلة أقلام العراقية، المجلة الثقافية العريقة، في عددها الأخير، تفطنت للأمر، هكذا استحدث بابا، أسمته “صنّاع الثقافة”؛ ومن يصنع الثقافة من غير الناشرين “هؤلاء الذين أسهموا بصناعة المناخ الثقافي، فنشروا المعرفة وتبنوا الفكر التنويري”، ولكن ليس جميع الناشرين، المقصود بهم “أولائك الذين لم يضعوا مسألة الربح المادي معيارا لعملهم، إنما المعيار الثقافي والفكري أوّلا، ثم تأتي المسألة المادية كحق مشروع”.


هكذا اختارت المجلة العراقية كنموذج للناشر العربي، الباحث والناشر الليبي سالم أحمد الزريقاني، صاحب دار “الكتاب الجديد المتحدة”، لعلها من بين دور النشر العربية النادرة، التي تجسّد فعلاً جميع عناصر الاحتراف في عملية النشر؛ سواء من حيث العناية الفائقة بكتبها شكلا ومحتوى، أو من خلال ضمانها حقوق التأليف والترجمة، في تعاملها مع الناشرين الأجانب والمترجمين، وكذلك في ضوء اختياراتها الدقيقة للكتب الأكاديمية في الفلسفة والنقد والأدب المعاصر، المؤلفة أو المترجمة، والتي يحتاجها الأساتذة والباحثون والطلبة في الجامعات العربية.


المجلة العراقية وصفت الناشر سالم أحمد الزريقاني بأنه: “أكثر الناشرين العرب صبرا على الحرف وصناعته، لذلك تخرج كتبه بكامل أناقتها”.
في هذا العدد من المجلة، تقدّم عدد من الكتّاب الذين ساهمت دار النشر في طباعة كتبهم، بشهادتهم في الرجل، يقول المفكر اللبناني رضوان السيد مثلا: “لقد استغربت دائما كيف يربح سالم الناشر، بعد ذلك الإنفاق الهائل على ترجمة الكتاب وتصحيحه وغلافه وورقه الصقيل وطبعه الأنيق .

وهو يعشق هذه الصناعة ويبدع فيها، ولا يفكر كثيرا في ما وراء ذلك”، ثم يضيف: “الذي يعرف الناشر سالم، يعرف أنه يمكن أن يجامل في كل شيء إلاّ النشر، ولو كان ثمن ذلك العداوة والهجران، وما أكثر خصومات سالم من هذه الناحية، ولا أحسبه ندم مرة على ذلك”.


شخصيا أتيح لي قراءة مجموعة من الأعمال النقدية المهمة التي أصدرتها دار “الكتاب الجديد المتحدة”، خاصة أعمال الفيلسوف الفرنسيّ الراحل بول ريكور، كما قرأت عملا في غاية الأهمية، أصدرته الدار حديثا، للمفكر والروائي الإيطالي الراحل أُمبَرتو إيكو، يحمل عنوان “الشعلة الخفيّة للملكة لُوانا”؛ تصدى لترجمته المترجم السوري المتميز معاوية عبد المجيد، مباشرة من لغته الأصلية الايطالية؛ الرواية تتضمن الكثير من الصوّر واللوحات والرسومات الملونة وأفيشات السينما والطوابع البريدية وأغلفة الكتب، من هنا تكمن صعوبة نشر هذه النوعية المتفردة من الكتب، يقول الناشر سالم أحمد الزريقاني: “الرواية تحمل بين طيّاتها عددا كبيرا من الصور والرسوم الملوَّنة، ولعل هذا ما سبّب تأخر نقلها إلى العربية، إذ إن إيكو كان قد أوصى بطباعتها بالجودة نفسها في كلّ اللغات التي ستُترجم إليها، وهذا ما لا ينسجم مع إمكانات دور النشر العربية عمومًا، إلّا دورًا معدودة منها دار الكتاب الجديد التي لم تتأخّر عن إصدار الرواية، رغبة منها في تمحيصها وتدقيقها ومراجعتها مرّات ومرّات لا عدَّ لها ولا حصر”. هكذا صدرت هذه الرواية بعناية فائقة، من طرف دار النشر، من حيث أنها مدققة لغويا بصفة كاملة، حروفها مشكلة، إلى جانب جودة الورق والغلاف والصور والرسوم الكثيرة الملونة.
الناشر سالم أحمد الزريقاني، ومن خلاله جميع الناشرين الحقيقيين في المنطقة العربية، يستحقون منّا كل الشكر والتقدير والعرفان، نظير إخلاصهم وجهودهم وتفانيهم، في صناعة الكتاب المفيد والترويج له، وسط جحود ونكران، وظروف عمل صعبة على جميع المستويات.

شاهد أيضاً

هزيز الصمت .. مجموعة قصصية جديدة للكاتب سليم عبادو

بوداود عمير – كاتب و مترجم . لا تزال بلدة قمار الجنوبية بالوادي، تنجب أسماء …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *