محند أرزقي فراد – كاتب جزائري
ما أحوجنا في شهر رمضان الكريم إلى استخلاص دروس التراحم والتسامح من تراث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لرصّ الصفوف ولتمتين لحمة التآخي، بدل البحث في تضاعيفه عن أفكار شاذة يفجّرها البعض كقنابل على حاضرنا الذي يعاني أصلا من خطاب الكراهية الصادر عن جهات عديدة ومختلفة!. نعم.. لا يختلف اثنان عاقلان حول أهمية “النقد” كآلية علمية لغربلة التراث، لكن ليس كل قدح وذم وتسفيه نقدا موضوعيا.
لا شك أنكم لاحظتم وجود طيف ثقافي/سياسيّ معيّن، دأب على تبخيس تراث جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، دون دراية ودون الإلمام بموروثها الثقافي الواسع، وتجرأ البعض من هذا “الطيف” على اختزالها في كونها “رَحِمَا” أنجب الجماعات الإسلامية المتطرفة التي أهلكت الحرث والنسل في تسعينيات القرن الماضي.فهل صحيح أن أفق جمعية العلماء التاريخية كان ضيقا ومتعصّبا للإسلام، لا يتّسع للتواصل مع أديان أخرى؟
من جواهر الكلام أن “لكلٍّ وجهة هو موليها”، ووجهتي أنا هي البحث بموضوعية في تراثنا عن كل ما من شأنه أن يزرع المحبة والتسامح والتراحم بين أفراد المجتمع، الذين يتمايزون فيما بينهم ثقافيا واجتماعيا لاعتبارات تاريخية وجغرافية، في وطننا الحبيب الذي هو في حجم قارة. لما عدتُ إلى موروث جمعية العلماء، وجدت نصّا في جريدة البصائر يؤكد عكس هذا التنميط السلبي، يؤكد رحابة صدرها وانفتاحها على الجزائريين المسيحيين، ولم تكن تنشر خطاب الكراهية بين الأغلبية المسلمة والأقلية المسيحية الجزائرية في عهد الاستعمار الفرنسي. وتبيّن من خلال هذا النص، أن العلاقة بين الطرفين كانت ودّية، ولم تكن عدائية.
فعندما صدر كتاب “في طرق الهجرة” للأديب مالك واري (1916- 2001م) ، وهو مسيحي العقيدة من بلدة إغيل علي(ولاية بجاية حاليا)، قام بإهداء نسخة من كتابه لجريدة البصائر، فخصّصت له مقالا في ركن “مكتبة البصائر”، نشر في العدد 305، بتاريخ 22 أفريل 1955م، وصفت فيه مؤلفه المسيحيّ بـ”الصديق”. وأكتفي في هذا المقام بنقل الفقرة الأولى من النص بأمانة:« عنى الكاتب القدير والصحافي الشهير صديقنا مالك واري، بمشكلة عمّالنا المهاجرين إلى ديار فرنسا عناية خاصة، فأصدر أخيرا كتابا قيّما باللغة الفرنسية تحت عنوان:” في طرق الهجرة” عالج فيه هذه المشكلة من جوانبها الكثيرة، وبَحَثَ بَحْث الدارس الخبير في أسباب هذه الهجرة ودواعيها، ووصف بعض أخطارها ومآسيها وصفا بليغا مؤثرا.»
كم نحن في حاجة ماسة إلى استلهام الدرس والعبرة من تراث جمعية العلماء الذي يعجّ بمواعظ التسامح والتراحم، خاصة ونحن نمرّ بظرف عصيب كشر فيه وباء التباغض أنيابه بين الجزائريين، وقد كتبوا في الماضي آيات اتحادهم على صفحات القرون الماضية بتعبير المصلح المفكر عبد الحميد ابن باديس!.
ما أحوجنا إلى تبني “النقد البناء” باعتباره أداة من أدوات البحث العلمي الموضوعي المنصف، لتبيان مواطن القوة والضعف في تراثنا، بدل ركوب موجة تسفيه وتبخيس هذا التراث جملة وتفصيلا، كما يفعل المتحذلقون، الذين يعبثون بعقول الناس، قصد تنويمها بالظنون الكواذب والأماني الخوادع، المنجبة للتفرق المذموم!.
ومن محاسن جمعية العلماء، أن إمام المصلحين عبد الحميد بن باديس كان ينشر في منابره مقالات ناقدة لبعض نشاط جمعيته في المجالين الديني والسياسي، ولم ير في الأمر غضاضة، لأنه لم يكن مغرورا، ولم يضع نفسه فوق النقد، ولأنه كان متسامحا مع الآخر المختلف. فما أكثر عبر جمعية العلماء، لكن الاعتبار قليل!.